الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فظاهر النص الأخير يتعارض مع ما ورد في النص الأول، إذ النص الأخير يدل بظاهره على نسبة النصب للفعل المضارع إلى حتى، من غير إشارة إلى "أنْ" من قريب أو من بعيد، غير أن الأمر كما أوضح ابن جني أنه قد تكرر من قول سيبويه أن حتى من حروف الجر، وهذا نافٍ لكونها ناصبة للفعل المضارع من حيث كانت عوامل الأسماء لا تُباشر الأفعال، فضلًا عن أن تعمل فيها، كما استقر من قوله في غير موضع:"ذكر عدة الحروف الناصبة للفعل"، وليست فيها حتى، فعُلم بذلك وبنصه على أن أنْ هي الناصبة مضمرة بعد حتى أن المذهب والأجرى على قوانينه، أن حتى من حروف الجر، وأن الناصب بعدها أنْ مضمرة وجوبًا. ومن هنا فقد حرص ابن جني على إزالة هذا التعارض الظاهر بين القولين بتأويل القول الثاني فقال:"ووجه القول في الجمع بين القولين بالتأويل أن الفعل لما انتصب بعد حتى، ولم تظهر هناك أنْ، وصارت حتى عوضًا منها ونائبة عنها؛ نسب -أي: سيبويه- النصب إلى حتى، وإن كان في الحقيقة لـ: أنْ" انتهى.
الحكم إن لم يمكن التأويل
إذا تعذر الأخذ بأحد القولين المرسلين المتعارضين لعدم إمكان الرجوع عن الآخر بضرب من التجوز والتأويل، فإن نص العالم في أحدهما عن الرجوع عن الآخر؛ عُلم بذلك أن رأيه مستقر على ما أثبته ولم ينفيه، وأن القول الآخر مطرح متروك، لا يُنسب إليه بعد رجوعها، قال ابن جني: "ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين، غير أنه نص في أحدهما على الرجوع عن القول الآخر؛ فيُعلم بذلك أن رأيه مستقر على ما أثبته ولم ينفِهِ، وأن القول الآخر
مطرح من رأيه"، ثم ذكر أن من أمثلة الشائع في الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس المبرد قد تتبع به كلام سيبويه وجمعه في كتاب سماه (مسائل الغلط)، ثم اعتذر منه وكان يقول: "هذا شيء كنا رأيناه في أيام الحداثة، فأما الآن فلا".
فإن تعذر الأخذ بأحدهما وتأويل الآخر، ولم ينص العالم على الرجوع عن أحدهما، واستبهم الأمر فلم يُعرف التاريخ؛ وجب سبر المذهبين، وإنعام الفحص عن حال القولين، فإن كان أحدهما أقوى من صاحبه؛ وجب إحسان الظن بذلك العالم، وأن ينسب إليه أن الأقوى منهما هو قوله المعتمد الذي به يقول وله يعتقد، وأن الأضعف منهما هو القول الذي تركه ولم يعتمده، وإن تساوى القولان في القوة؛ وجب أن يُعتقد أنهما رأيان له، وأن الدواعي إلى تساويهما عند الباحث عنهما هي الدواعي التي دعت القائل بهما إلى أن اعتقد كلًّا منهما.
وذكر ابن جني أن أبا الحسن الأخفش كان يقع له ذلك كثيرًا، حتى إن أبا علي كان إذا عرض له قول عنه يقول:"لا بد من النظر في إلزامه إياه؛ لأن مذاهبه كثيرة"، كما حكى عن أبي علي رحمه الله أنه كان يقول في هيهات:"أنا أفتي مرة بكونها اسمًا سُمي به الفعل كصه ومه، وأفتي مرة أخرى بكونها ظرفًا على قدر ما يحضرني في الحال"، وقال مرة أخرى:"إنها وإن كانت ظرفًا فغير ممتنع أن تكون مع ذلك اسمًا سُمي به الفعل كعندك ودونك" يعني: أن أبا علي كان يرى مرة أن هيهات اسم فعل ماض بمعنى بعُد كصه، التي هي اسم فعل أمر بمعنى: اسكت، ومه التي هي اسم فعل أمر أيضًا بمعنى اكفف، فيفتي بذلك، ومرة أخرى يراها ظرفًا فيفتي بكونها ظرفًا يعني إذا قلت: هيهات ما تقول، فالمعنى: في البُعد ما تقول. وكان مرة ثالثة يرى أنها وإن كانت ظرفًا فغير ممتنع أن تكون ظرفًا سُمي به الفعل.
وتابع ابن جني حديثه عن شيخه أبي علي، وبيان ما كان يفعله إزاء ما يسمعه من أقوال أبي الحسن الأخفش الكثيرة فقال:"وكان إذا سمع شيئًا من كلام أبي الحسن -أي: الأخفش- يُخالف قوله يقول: عكر الشيخ، يعني: أخرج كلامه عن الوضوح والصفاء إلى الغموض والخفاء، قال: وهذا ونحوه -أي: ما يخطر بباله من الأفكار والإدراكات- من خلاج الخاطر، وتعادي المناظر، وهو الذي دعا أقوامًا إلى أن قالوا بتكافؤ الأدلة أي: بتساويها، واحتملوا أثقال الصغار والذلة. قال: وحدثني أبو علي قال: قلت لأبي عبد الله البصري: أنا أعجب من هذا الخاطر في حضوره تارة ومغيبه أخرى، وهذا يدل على أنه من عند الله، فقال: نعم، هو من عند الله إلا أنه لا بد من تقديم النظر" انتهى.
وأختم بذكر مثال للقولين المتضادين لعالم واحد، وبالبحث عن تاريخهما يُعلم أن الثاني هو ما اعتزمه ذلك العالم، وأن الأول يُعدُّ مرجوعًا عنه في ضوء ما وضعه ابن جني من قوانين، وما نص عليه من قواعد، وإن لم يذكر لنا مثالًا لذلك. وذلك المثال الذي نورده هنا من واقع بعض مؤلفات ابن مالك -رحمه الله تعالى. قال ابن مالك في كتاب (التسهيل) باب إعمال المصدر:"والغالب إن لم يكن بدلًا من اللفظ بفعله تقديره به بعد أنِ المخففة أو المصدرية، أو ما أختها".
ويُفهم من هذه العبارة شيئان؛ أحدهما: أن المصدر العامل عمل فعله نوعان: نوع يقدر بالفعل، وحرف مصدري من الأحرف الثلاثة، ونوع يقدر بالفعل وحده وهو الآتي بدلًا من اللفظ بفعله. والآخر: أن تقدير المصدر بالفعل والحرف المصدري في النوع الأول ليس شرطًا لازمًا في عمل المصدر، بل هو عند ابن مالك شرط غالب يعني: قد يتخلف،
وأيَّد ذلك في (شرح التسهيل) فقال: "وليس تقدير المصدر العامل بأحد الأحرف الثلاثة شرطًا في عمله، ولكن الغالب أن يكون كذلك"، لكنه رجع عن ذلك الرأي الذي خالف فيه جمهور النحاة في (الألفية) قال في باب إعمال المصدر:
بفعله المصدر ألحق في العمل
…
مضافًا او مجردًا أو مع ال
إن كان فعل مع أن أو ما يحل
…
محله والاسم مصدر عمل
وتبعه شراحها في اشتراط ما اشترطه فيها، فإذا انتقلنا إلى (الكافية الشافية) لابن مالك أيضًا وجدناه يقول في نظمها:
كفعله المصدر أعمل حيثما
…
يصح حرف مصدري تمما
ثم يقول في الشرح: "وينبغي أن يُعلم أن المصدر العامل على ضربين؛ أحدهما: مقدر بالفعل وحرف مصدري، والثاني: مقدر بالفعل وحده، فإن أُريد بالأول الحال قُدِّر بـ: ما المصدرية والفعل، ولم يقدر بـ: أنْ؛ لأن مصحوبها لا يكون حالًا، وإن أريد به غير الحال؛ جاز أن يُقدَّر بـ: أن وبـ: ما، ولأجل الحاجة إلى غير أنْ قلت -يعني: في النظم: حرف مصدري، ثم قال: ولأجل تقديره أي: المصدر العامل بفعل وحرف مصدري، جُعل هو ومعموله كموصول وصلته"، انتهى كلام ابن مالك في (شرح الكافية الشافية)، وهكذا رجع عن الرأي الذي أثبته في (التسهيل) وشرحه.
هذا وبالله التوفيق.