الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغة الضعيفة أولى من الشاذ
لقد ذكر ابن عصفور فيما نقله السيوطي عنه أنه إذا تعارض ارتكاب شاذ ولغة ضعيفة، فارتكاب اللغة الضعيفة أولى من ارتكاب الشاذ، ومعنى ما ذكره ابن عصفور: أنه إذا دار أمر المتكلم بين أن يتكلم بلغة ضعيفة أو بكلام شاذ، فإن التكلم باللغة الضعيفة أولى من ارتكابه الشاذ؛ لأن هذه اللغة على ضعفها مروية عن بعض العرب، وكل لغة تمثل حقلًا لغويًّا لا يصح إهداره أو الحيف عليه، وليس كذلك الشاذ، فاللغة الضعيفة إنما قُدِّمت على الشاذ؛ لأن اللغة الضعيفة مجمع على أن طائفة من العرب قد نطقت بها وإن كانت ضعيفة؛ ولأن الأصل في الشاذ أن يحفظ ولا يقاس عليه، فلا يجوز أن تبنى عليه القواعد، والمراد بالشاذ هنا المردود كتتميم مفعول فيما عينه واو نحو قول بعضهم: ثوب مصوون، ومِسك مَدْوُوف، أي: مخلوط أو مبلول، وفرس مقوود، ورجل مَعْوود من مرضه.
الأخذ بأرجح القياسين عند تعارضهما
إن التعارض بين قياسين صورة من صور التعارض بين الأدلة، وقد أفرد الأنباري في كتابه (لمع الأدلة) فصلًا عنوانه: في معارضة القياس بالقياس، وعنه نقل السيوطي هذه المسألة، وقد ذكر الأنباري في مقدمة هذا الفصل: أنه قد يقع التعارض بين قياسين؛ فأحدهما يثبت حكمًا، والآخر يثبت حكمًا آخرَ، وإذا وقع التعارض بين القياسين رُجِّح أحدهما على الآخر. وقد ذكر الأنباري أن هناك طريقين يرجح بهما بين القياسين المتعارضين، فقال: "اعلم أن القياسين إذا
تعارضا أخذ بأرجحهما، وهو أن يكون أحدهما موافقًا لدليل آخر من طريق النقل أو طريق القياس".
ومعنى ما ذكره الأنباري: أن السماع -وهو الذي يعبر عنه الأنباري باسم النقل- قد يُرجح قياسًا على قياس، كما أن موافقة القياس قد ترجح أحدهما على الآخر، ولم يذكر الأنباري مثالًا رجح فيه السماع أحد القياسين، وإنما اكتفى بقوله:"فأما الموافقة من طريق النقل، فنحو ما قدمناه في الفصل الذي قبله". انتهى. والمراد بالفصل الذي قبله: فصل معارضة النقل بالنقل.
ومما سبق نقول: إن الأنباري لم يذكر في (لمع الأدلة) كما لم يذكر السيوطي في (الاقتراح) مثالًا تعارض فيه قياسان، وكان السماع مرجحًا أحدهما على الآخر، وقد ذكر الأنباري مثالًا لترجيح السماع بين القياسين المتعارضين، وذلك في كتابه (الإنصاف) إذ أفرد في هذا الكتاب مسألةً لعامل النصب في خبر ما النافية. فقد ذهب الكوفيون إلى أن ما الحجازية لا تعمل النصب في الخبر، وإلى أن الخبر منصوب بنزع الخافض، واحتجوا لمذهبهم بالقياس فقالوا: إن القياس في ما ألا تعمل؛ لأن الحرف إنما يكون عاملًا إذا كان مختصًّا و"ما" غير مختص، فالأصل فيه ألا يعمل، ولذلك أهملها بنو تميم، وأعملها الحجازيون؛ لأنهم شبهوها بـ: ليس من جهة المعنى، وهو شبه ضعيف، فلم يقوَ على العمل في الخبر كما عملت ليس.
وذهب البصريون إلى أن "ما" هي التي تنصب الخبر واحتجوا بالقياس، فذكروا أن الدليل على صحة مذهبهم، هو أن ما أشبهت ليس فوجب أن تعمل عملها، وعمل ليس الرفع والنصب، أي: رفع الاسم ونصب الخبر، ويقوي الشبهَ بين ما وليس دخول الباء في خبر ما كما تدخل في خبر ليس فَمِن دخول الباء في خبر
ليس قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (الزمر: 36) ومن دخول الباء في خبر ما قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت: 46). فإذا ثبت أن ما قد أَشبهت ليس وجب أن تعمل عملها.
ومما سبق: يتبين أن هناك قياسين متعارضين، وقد رجح الأنباري قياس البصريين، فذكر أن النقل -أي: السماع- هو الذي يرجح ما ذهب إليه البصريون، فقال:"وأما قولهم -أي: قول الكوفيين: إن القياس يقتضي ألا تعمل، قلنا: كان هذا هو القياس، إلا أنه وُجِدَ بينها وبين ليس مشابهة اقتضت أن تعمل عملها، وهي لغة القرآن، قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} وقال تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (المجادلة: 2) ". ومما سبق: يتبين أن السماع هو أحدُ الطريقين اللذين يُرجح بهما بين القياسين المتعارضين.
والطريق الآخر هو القياس، ومثاله: أن يقول الكوفي: إنَّ إِنَّ وأخواتِها تعمل في الاسم النصب لشبه الفعل، ولا تعمل في الخبر الرفع، بل الرفع فيه بما كان يرتفع به قبل دخولها، فيقول البصري: هذا فاسد؛ لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الاسم النصب إلا وهو يعمل الرفع، فما ذهبتَ إليه يؤدي إلى ترك القياس ومخالفة الأصول لغير فائدة، وذلك لا يجوز. وبيان ذلك: أن النحويين لم يختلفوا في أن إنَّ أو إحدى أخواتها هي التي تعمل النصب في الاسم، ولكن اختلفوا في عامل الرفع في الخبر على مذهبين، وحجة الكوفيين فيما ذهبوا إليه أن إنَّ إنما عملت بالحمل على الفعل فهي ضعيفة، ويجب أن تكون منحطةً عن رتبة الفعل الذي عملت بالحمل عليه كما هو شأن الفرع أبدًا، فوجب نزولها عن الفعل، ولو عملت في الخبر لأدى ذلك إلى التسوية بين الأصل والفرع.
وحجة البصريين أن إنَّ قد نصبت المبتدأ وجعلته اسمًا لها، ولو جاز أن يكون الخبر مرفوعًا على ما كان مرفوعًا به قبل دخول إنَّ لكان المبتدأ أحق بذلك، فلما نُصِبَ المبتدأ بـ: إن وجب أن يكون رفع الخبر أيضًا بها إذ ليس في كلام العرب شيء يعمل النصب في الأسماء، ولا يعمل الرفع، ومن المحال ترك القياس ومخالفة الأصول بغير فائدة. ومعنى ما سبق: أن الكوفيين قد استدلوا على صحة مذهبهم بالقياس، وهو أن إنَّ فرع عن الفعل في العمل، والفروع تنحط أبدًا عن درجات الأصول، كما استدل البصريون على صحة مذهبهم بالقياس أيضًا، وهو أن إنَّ وأخواتها قد أشبهت الفعل لفظًا ومعنًى، فلما قوي شبهها بالفعل -والفعل يرفع وينصب- وجب أن تكون مثله وقد تعارض القياسان، ورجح الأنباري مذهب البصريين بالقياس؛ لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الأسماء النصب إلا وهو يعمل الرفع.
وبهذا نكون قد وصلنا إلى ختام هذا الدرس فإلى لقاء يتجدد إن شاء الله تعالى مع الدرس السادس عشر هذا وبالله التوفيق.