الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتمسكوا -أي: القائلون بأن العكس ليس بشرط في صحة العلة- في الدلالة على أن العكس ليس بشرط في العلة، بأن هذه العلة مشبهة بالدليل العقلي، والدليل العقلي يدل وجوده على وجود الحكم ولا يدل عدمه على عدم الحكم، فإن وجود العالم يدل على وجود الصانع، ولا يدل عدمه على عدمه". وأبطل أبو البركات الأنباري ما ذهب إليه أصحاب هذا الرأي الأخير، وأفسد دليلهم، فقال: "وهذا ليس بصحيح، وذلك أن الدليل لو تُصور عدمه لَعُدِمَ المدلول، فإن مدلول العالم العلم بالصانع مع نتيجة وجود العالم، والعالَم لن يُتصور خروجه عن أن يكون موجودًا في الوقت الذي كان موجودًا فيه، ولو تصور عدمه لعدم المدلول وهو العلم بالصانع، وإذا كان ذلك شرطًا في الدليل العقلي فكذلك ها هنا أي: كما قال الأولون".
عدم التأثير
القادح الثالث من القوادح في العلة: عدم التأثير؛ أي: عدم التأثير للوصف في الحكم، قال السيوطي:"وهو أن يكون الوصف لا مناسبة فيه". وقد نقل السيوطي هذا المبحث عن الأنباري في (لمع الأدلة) حيث قال الأنباري: "اعلم أن العلماء -أي: أكثرهم- ذهبوا إلى أنه لا يجوز إلحاقه على الإطلاق سواء كان لدفع نقض أو غيره، بل هو حشو في العلة لا يجوز تعليق الحكم به، أي: لا يجوز إلحاق الوصف بالعلة مع عدم المناسبة، بل يُعد حشوًا زائدًا يقدح في العلة، وذلك - أي: عدم تأثير الوصف- مثل أن يدل المستدل على ترك صرف حُبلى، فيقول: إنما امتنع هذا اللفظ من الصرف؛ لأنه في آخره ألف التأنيث المقصورة، أي: فوجب أن يكون غير منصرف كسائر ما في آخره ألف التأنيث المقصورة،
فَذِكْر المقصورة حشو؛ لأنه لا أثر له في العلة؛ لأن ألف التأنيث لم تستحق أن تكون سببًا مانعًا من الصرف لكونها مقصورةً، وإنما كانت مانعة من الصرف لكونها للتأنيث فقط.
ألا ترى أن ألف التأنيث الممدودة سبب مانع من الصرف كالألف المقصورة أي: لوجود المانع وهو التأنيث، فلو كان القصر معتبرا في منع الصرف ما مُنعت الممدودة، وإنما قام التأنيث بهما -أي: بالمقصورة والممدودة- مقام سببين بخلاف التاء للزومها، أي: للزوم ألف التأنيث الكلمة بخلافها، أي: بخلاف تاء التأنيث، ألا ترى أنه ليس لهم حُبل وحبلى كما لهم طلح وطلحة". وانتقل الأنباري إلى ذكر دليل القائلين بعدم جواز إلحاق الوصف بالعلة مع عدم المناسبة، فقال: "وتمسكوا في الدلالة على أنه لا يجوز إلحاقه -أي: إلحاق الوصف المذكور ونحوه بالعلة- وأنه حشو فيها، بأنه لا إخالةَ فيه ولا مناسبة، وإذا كان خاليًا عن الإخالة والمناسبة لم يكن دليلًا، أي: على الحكم المعلل به، وإذا لم يكن دليلًا لم يجز إلحاقه بالعلة، وإذا لحق بها كان حشوًا فيها أي: قادحًا فيها؛ لعدم تأثيره.
وذهب بعضهم إلى التفصيل بين أن يذكر الوصف دليلًا للحكم فلا يجوز، أو يذكر للنقض فيجوز، فذهبوا إلى أنه إذا ذكر -أي: الوصف- لدفع النقض -أي: للعلة فيما تخلف فيه الحكم عنها- لم يكن حشوًا في العلة، أي: لم يكن خاليًا عن الفائدة لتأثيره في الحكم". قال الأنباري: "وتمسكوا أي: الذين فصلوا في الدلالة على ذلك، أي: على أن الوصف المذكور لدفع نقض لا يعد حشوًا في العلة، بأن قالوا: الأوصاف في العلة تفتقر إلى شيئين؛ أحدهما: أن يكون لها تأثير، والثاني: أن يكون فيها احتراز، فكما لا يكون ما له تأثير حشوًا، فكذلك
لا يكون ما فيه احتراز حشوًا، أي: لما علمت أن الاحتراز من مطالب العلة كالتأثير". قال الأنباري معقبًا على ما قالوا: "وهذا ليس بصحيح؛ لأن ما له تأثير فيه تأثير واحتراز، فلوجود الشرطين جعل علةً، وما ذكر للاحتراز فقط فَقَدْ فُقِدَ فيه أحدُ الشرطين فلا يعتد به".
قال السيوطي: "وقال ابن جني في (الخصائص): قد يزاد في العلة صفة لضرب من الاحتياط، أي: لا للتأثير ولا للاحتراز. ولكن لضرب من الاحتياط، بحيث لو أُسقطت لم يقدح إسقاطها فيها، أي: لم يؤثر إسقاط الصفة في العلة. كقولهم في همز أوائل وهو جمع أول، وأصله: أوأل، من وأل أي: نجا؛ لأن النجاة في السبق، وقيل: أصله أأول، بفتح فسكون، من آل بمعنى: رجَعَ؛ لأن كل شيء يرجع إلى أوله، فهو أفعل بمعنى مفعول كأشهر وأحمد، فأبدلت الهمزة في الوجهين المذكورين واوا إبدالا شاذا، وقال الكوفيون: هو فَوْعل من وَوَل، فأبدلت الأولى همزةً، قال الرضي في (شرح الكافية): وتصريفه كتصريف أفعل التفضيل، واستعماله بـ"مِن" مبطلان لكونه فوعلًا"، انتهى.
قالوا في همز أوائل: أصله -أي: أصل أوائل-: أواول، أي: بواوين كما كانتا في المفرد، فلما اكتنفا أي: أحاط الألف واوان، وقربت الثانية منهما من الطرف، ولم يؤثر إخراج ذلك على الأصل تنبيهًا على غيره من المغيرات في معناه، أي: لم يعهد إبقاء ذلك على أصله من غير تغيير دلالةً على ما غير من غيره -كما سيأتي- وليس هناك ياء قبل الطرف، يعني: أنه جاء على مثال مفاعل وليس على مثال مفاعيل بياء قبل آخره، إذ لو وجدت هذه الياء لفظًا أو تقديرًا لمنعت من الإبدال كما ستعرف، وكانت الكلمة جمعًا، ثقل ذلك، فأبدلت الواو همزةً، فصار أوائل، أي: لأنه من مواضع إبدال كل من الواو
والياء همزة وجوبًا أن تقع إحداهما ثاني حرفي علة توسطتهما ألف الجمع الذي على مثال مفاعل، سواء أكان الحرفان المكتنفان لألف الجمع واوين كأوائل، وأصله أواول، أم ياءين كعيائل وهو جمع عَيِّل، بمعنى فقير، أو كثير العيال، من: عَال يعيل عيلًا وعيلةً وعيولًا، فأصل الجمع: عيايل، أم مختلفين كبوائع في جمع بائعة، وسيائد في جمع سيد، وأصلهما: بوايع وسياود، فهذه علة مركبة من خمسة أوصاف محتاج إليها في وجوب الإبدال، إلا الخامس، وهو كون الكلمة جمعًا، أي: فإنه لا حاجة إليه لتحقق الإبدال مع الأربعة الأول سواء كان مفردًا أو جمعًا. فقولك: ولم يؤثر
…
إلى آخره، احتراز من نحو قوله:
تسمع من شُذّانها عواولا
…
....... ..... ........ ...... ...... .....
هذا القول رجز لم يعلم قائله، والشذان جمع شاذ، كشاب وشبان. قيل: والعواول جمع عِوَّال بكسر العين وتشديد الواو، مصدر عوَّل، أي: صاح، كما يقال: كذب كذابًا، وكأنه يصف دلوًا يتناثر منها الماء، أو منجنيقًا يتناثر منها الحجارة، قيل: وأصل العواول العواويل، فحذفت الياء للضرورة، والذي نراه أنه لا ياءَ مقدرةً في عواول، وليس أصلها عواويل، وحذفت الياء للضرورة كما قيل، إذ لو كان الأمر كذلك لاتفق هذا الشاهد مع ما بعده، وصارَا معًا بمنزلة شيء واحد لشاهد واحد، وصارت العلة مركبة من أربعة أشياء لا من خمسة كما ذكر السيوطي.
كما أن عبارة ابن جني: "ولم يؤثر
…
" إلى آخره. لا تعين على هذا التخريج، وتوحي أن هذا الجزء من العلة المذكورة مغاير للذي بعده، وأقرب تفسير لذلك من وجهة نظرنا في ضوء ما ذكره ابن جني والسيوطي: أن عواول ليس جمع عِوال، وإنما هو جمع عائلة، وهو اسم فاعل لمؤنث على فاعلة من الفعل
الأجوف الواوي عالت تعول إذا صاحت، وكان هذا الجمع بمقتضى القياس يستحق الإبدال كصوائل وجوائل، ولكن أُوثِر إخراج هذا الجمع على أصله، أي: من غير إبدال؛ ليكون دلالةً على أصل ما غُير من غيره في نحوه كما قال ابن جني، وهذا هو الشاهد فيه. ويؤيد هذا التفسير أن شذان قد جاء في بعض نسخ (الخصائص) كما ذكر محققه -رحمه الله تعالى- بفتح الشين، وذكر (القاموس) وغيره من المعاجم اللغوية: أنه بالفتح والضم ما تفرق من الحصى وغيره، فربما يكون المعنى: أنك تسمع من ارتطام هذا الحصى المتفرق بعضه ببعض أصواتًا عاليةً تشبه ما عَلَا من الصياح. والله أعلم. وقولك: وليس هناك ياء مقدرة لئلا يلزمك نحو قوله: وكحل العينين بالعواور؛ لأن أصله عواوير، يخاطب الراجز، وهو جندل بن المثنى الطهوي أو العجاج امرأته بقوله:
غرك أن تباعدت أباعري
…
وأن رأيت الدهر ذا الدوائر
حنى عظامي وأراه ثاغري
…
وكحل العينين بالعواور
وتباعد الأباعر وهو جمع بعير كناية عن ترك السفر لكبره، أو عن فقره، فقلت أباعره، وقرب بعضها من بعض، وثاغر: كاسر ثغري أي: أسناني، والعواور جمع عوار بضم العين وتشديد الواو كرُمان، وهو القذى الذي في العين، أو الرمد الشديد، وأصل الجمع عواوير؛ لأن ألف الجمع الأقصى تأتي ثالثة فاصلة بين الواوين، إذ الواو المشددة في موضع العين بواوين، فالجمع على مثال مفاعيل، وكل ما كان على هذا الوزن من مثل هذا الجمع لا يُبدل حرف العلة الثاني منه همزة؛ لبعده عن الطرف؛ لأن الياء التي قبل الآخر جاءت مبعدة إياه عن ذلك، وقد نص العلماء على أن هذه الياء تمنع الإبدال سواء أكانت منطوقًا بها أم كانت مقدرةً، فالعبرة بما يقتضيه القياس لا بالمنطوق، وبناء على هذه القاعدة سَلِمَ الجمع في الرجز المذكور؛ عملًا بالقياس؛ لأن الجمع القياسي لعوار
هو العواوير، ولكن الراجز حذف الياء للضرورة، فهي في تقدير الموجودة.
وقولك: وكانت الكلمة جمعًا، غير محتاج إليه؛ لأنك لو لم تذكره لم يخل ذلك بالعلة، أي: لحصول الحكم وإن فُقدت الجمعية، ألا ترى أنك لو بَنيت من قُلت وبِعت واحدًا على فواعل أي: كعوارض وهو جبل ببلاد طيئ، وعليه قبر حاتم، أو أُفاعل أي: كأُباتر، وهو الذي يقطع رحمه أو الذي لا نسل له، لهمزتَ كما تهمز في الجمع، أي: لهمزت ذلك المفرد كما تهمز في الجمع، لكنه ذُكر -أي: ذكر وصف الجمع مع التعليل- تأنيثًا. عبارة ابن جني في (الخصائص): "فَذِكْرك الجمع في أثناء الحديث إنما زدت الحال به أنسًا". انتهى.
من حيث كان الجمع في غير هذا، أي: في غير هذا الوزن مما يدعو إلى قلب الواو ياء في نحو: حُقي ودلي، أي: في جمع حَقو وحِقو بفتح الحاء وكسرها، وهو الخاصرة، ودلو، وقد وقعت الواو فيهما لامًا لجمع على فعول، فأصلهما: حقوو ودلوو، بواوين، أولاهما واو الجمع، والثانية لام الكلمة، فتقلب الثانية منهما ياءً؛ استثقالًا لاجتماع واوين مع ثقل الجمعية، وقبلهما ضمتان. وفي الطرف الذي يتطلع إلى التخفيف ثم تقلب الأولى ياء؛ لاجتماعها ساكنة مع الواو، ثم تدغم الياء في الياء، ثم تقلب الضمة قبل الياء المشددة كسرةً؛ لمناسبة الياء، وهذا هو قدر واجب. أما إتباع الفاء للعين في الكسر فجائز حسن. فذُكر هنا -أي: ذكر في أوائل- قيد الجمع في أوصاف العلة؛ تأكيدًا لا وجوبًا، أي: لما علمت أن ذلك الوزن يقتضي القلب مطلقًا، وأن الجمع مما يدعو إليه. قال -أي: ابن جني في (الخصائص): "ولا يجوز زيادة صفة لا تأثير لها أصلًا البتة، كقولك في رفع طلحة من نحو: جاءني طلحة، إنه لإسناد الفعل إليه، أي: وهذه هي العلة الصحيحة، ولأنه مؤنث وعَلَم، فَذِكْر التأنيث والعلمية لغو لا فائدةَ له". انتهى. أي: قدر زائد خال عن الفائدة.