الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغير محتمل، لما فيه من البعد، ولتأييد أن أيمنًا -وهو جمع يمين- على أفعل وقوعه في مقابلة أشمل الذي هو جمع شمال. على أن ابن جني قد ذكر أوزانًا استبعدها من التقسيم، وهي أيفع، وفعمل، وأيفم؛ لأنها أوزان ليست في لسان العرب، ولا قريبة مما في لسان العرب.
أمثلة السبر والتقسيم عند أبي البقاء، وابن فلاح
نقل السيوطي في (الاقتراح) عن كتاب (التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين) لأبي البقاء العكبري، المتوفى سنة ست عشرة بعد الستمائة من الهجرة أن الدليل على أن نعم وبئس فعلان السبر والتقسيم، وذلك أنهما ليسا حرفين بالإجماع، وقد دلَّ الدليل على أنهما ليسا اسمين أي: وإن دخل عليهما الجار في شذوذ من الكلام، كما استدل به الكوفيون ما عدا الكسائي باسميتهما بذلك، فلا يُعتد به، والدليل على فعليتهما وجهان؛ أحدهما: بناؤهما على الفتح، ولا سبب لهما أي: للبناء لو كانا اسمين؛ لأن الاسم إنما يُبنى إذا أشبه الحرف، ولا مشابهة بين نعم وبئس وبين الحرف، فلو كانتا اسمين لأعربتا أي: لأن ذلك هو شأن الأسماء التي لا شبه لها بالحروف.
والثاني: أن كل واحدة منهما لو كانت اسمًا لكانت إما اسمًا جامدًا أو وصفًا، ولا سبيل إلى اعتقاد الجمود في أيٍّ منهما؛ لأن وجه الاشتقاق فيهما ظاهر، لأنهما من نعم الرجل إذا أصاب نعمة، والمنعَم عليه يُمدح، ولا يجوز أن يكون أيٌّ منهما وصفًا؛ إذ لو كانت أي منهما كذلك لظهر الموصوف معها، وهو لم
يظهر أصلًا، ولأن الصفة ليست على هذا البناء، وإذا بطل كونها حرفًا وكونها اسمًا؛ ثبت أنها فعل. انتهى.
أي: وإنما يدل بطلان كونهما حرفين أو اسمين على ثبوت كونهما فعلين، لأن أنواع الكلمة منحصرة في الأنواع الثلاثة بالاستقراء، ويدل على فعليتهما مع ذلك اتصال تاء التأنيث بهما. أما ادعاء اسميتهما بدليل دخول حرف الجر عليهما، فيما حكى أبو بكر بن الأنباري عن أبي العباس أحمد بن ثعلب عن سلمة، عن الفراء أن أعرابيًّا بُشر بمولودة فقيل له: نعم المولودة مولودتك، فقال: والله ما هي بنعم المولودة، نصرتها بكاء، وبرها سرقة. وحُكي عن بعض فصحاء العرب أنه قال: نِعْم السير على بئس العير، فقد أوَّلوه بأن الحكاية فيه مقدرة، وحرف الجر يدخل مع تقدير الحكاية على ما لا شبهة في فعليته، فالتقدير: والله ما هي بمولودة مقول فيها: نعم المولودة، ونعم السير على عير مقول فيه: بئس العير. إلا أنهم حذفوا الموصوف وأقاموا الصفة مقامه، فصار التقدير: ما هي بمقول فيها نعم المولودة، ونعم السير على مقول فيه بئس العير. ثم حذفوا الصفة التي هي مقول، وأقاموا المحكي بها مقامها؛ لأن القول يُحذف كثيرًا كما يُذكر كثيرًا، فدخل حرف الجر على الفعل لفظًا، وإن كان داخلًا على غيره تقديرًا، كما هو مبسوط في محله.
فقد أثبت العكبري أن نعم وبئس فعلان بطريق السبر والتقسيم، فذكر أنهما ليسا حرفين بإجماع النحاة؛ فالخلاف بين النحاة منحصر في قولين؛ أحدهما: أنهما اسمان، والآخر: أنهما فعلان، يبطل أن يكونا اسمين؛ لأنهما مبنيان على الفتح، ولا سبب للبناء؛ إذ لا مشابهة بينهما وبين الحرف، ولا يُبنى من الأسماء إلا ما أشبه الحرف عند أكثر النحويين، يقول ابن مالك رحمه الله في ألفيته:
والاسم منه معرب ومبني
…
لشبه من الحروف مدني
ولما انتفت المشابهة بين الحرف، ونعم وبئس، لم يكن هناك ما يقتضي البناء، فبطل أن يكونا اسمين. ومما ينفي القول باسميتهما أن الاسم إما جامد أو وصف، ولا يتصوَّر الجمود في نعم وبئس؛ لأن اشتقاقهما ظاهر، ولا يتصور أيضًا أن يكونا وصفين؛ إذ لو كانا كذلك لظهر الموصوف، فإذا بطل كونهما اسمين، وكونهما حرفين؛ تعين أن يكونا فعلين، لأن أنواع الكلمة منحصرة في هذه الثلاثة بالاستقراء. ويدل على فعلية نعم وبئس، كما جاء في (الإنصاف في مسائل الخلاف) اتصال ضمير الرفع بهما على حد اتصاله بالفعل المتصرف، فإنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا: نعما رجلين، ونعموا رجالًا، كما حكى ذلك الكسائي، واتصال تاء التأنيث الساكنة نحو: نعمت المرأة هند، وبئست المرأة دعد، وهذه التاء يختص بها الفعل الماضي لا تتعداه، ولا تجاوزه، فلا يجوز الحكم باسمية ما اتصلت به.
كما نقل السيوطي عن كتاب (المغني) لابن فلاح، وهو منصور بن محمد بن سليمان بن معمر اليمني، الشيخ تقي الدين أبو الخير المشهور بابن فلاح النحوي، نقل عنه السيوطي أن الدليل على أن كيف اسم هو السبر والتقسيم، فنقول: لا يجوز أن تكون حرفًا لحصول الفائدة منها مع الاسم، وليس ذلك لغير حرف النداء، ولا يجوز أن تكون فعلًا؛ لأن الفعل يليها بلا فاصل نحو: كيف تصنع، فيلزم أن يكون اسمًا؛ لأنه الأصل في الإفادة.
فقد استدل ابن فلاح على اسمية كيف بطريق السبر والتقسيم، بأن ذكر الأوجه المحتملة، ثم اختبرها، فأبقى ما كان صالحًا، ونفى ما عداه؛ فبين أنه لا يجوز: أن تكون كيف حرفًا، بحصول الفائدة فيها مع الاسم نحو: كيف زيد، فكيف خبر
مقدم لصدارته، وزيد مبتدأ مؤخر، فقد أتمت كيف معنى يحسن السكوت عليه، فبطل أن تكون حرفًا؛ لأن حصول الفائدة من الاسم والحرف لا يكون لغير حرف النداء؛ إذ يقوم حرف النداء مقام الفعل كما سبق بيانه، ولا يجوز أن تكون كيف فعلًا؛ لأن الفعل يليها من غير فاصل نحو: كيف تصنع، والفعل لا يلي الفعل بفاعل يكون فاصلًا، فلما انتفى أن تكون كيف حرفًا، أو فعلًا؛ تعيَّن القول باسميتها.
ومن تمام الفائدة أن نذكر أن كيف اسم استفهام يُستفهم به عن كل حال؛ لأن الأحوال أكثر من أن يُحاط بها، فجاءوا بكيف اسمًا مبهمًا يتضمن جميع الأحوال. وإذا تأملنا الأمثلة السابقة وجدنا في كل منها ذكرًا للأقسام المحتملة، وإبطالًا لما لا يصلح منها، وإبقاء لما يصلح، ويُعد هذا أحد قسمين ذكرهما السيوطي نقلًا عن الأنباري.
هذا والله ولي التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.