الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سماعيًّا أو قياسيًّا؛ لأنه إذا تعارض استصحاب الحال مع دليل آخر من سماع أو قياس، فلا عبرة بالاستصحاب، ولا اعتداد به، ولا التفات إليه؛ لقوة الدليل الآخر الذي يقابله ويعارضه. وقد بين الأنباري ضعف الاستدلال بالاستصحاب في المسألة الرابعة عشرة من مسائل (الإنصاف في مسائل الخلاف)، وهي مسألة نعم وبئس، إذ عرفنا أن من البصريين من استدل على فعليتهما فقال: الدليل على أنهما فعلان ماضيان، أنهما مبنيان على الفتح، ولو كانا اسمين لما كان لبنائهما وجه؛ إذ لا علة ها هنا توجب بناءهما.
ولم يرتض الأنباري الاستدلال بهذا الدليل الأخير، لأنه استدلال بالاستصحاب فقال:"وهذا تمسك باستصحاب الحال، وهو من أضعف الأدلة، والمعتمد عليه ما قدمناه" انتهى. أي: أن المعتمد عليه في إثبات فعليتهما هو اتصال الضمير المرفوع بهما، كما يتصل بكل فعل متصرف، واتصالهما بتاء التأنيث الساكنة. وخلاصة القول: إن استصحاب الحال أحد الأدلة المعتبرة، وهو في الوقت نفسه من أضعف الأدلة، فلا يجوز التمسك به إذا عارضه دليل غيره من سماع أو قياس.
الحكم في تعارض قبيحين
لقد عوَّل السيوطي في هذه المسألة على ما ذكره ابن جني في (الخصائص)؛ إذ إنه قد أفرد بابًا عنوانه: باب في الحمل على أحسن القبيحين، ومراده بذلك أنه إذا حضر عندك ضرورتان أي: أمران قبيحان، وكان أحدهما أشد قبحًا من الآخر، ولا بد للمتكلم من ارتكاب أحد القبيحين، فينبغي حينئذٍ ارتكاب أقربهما وأقلهما فحشًا. وقد نقل السيوطي في (الاقتراح) عن ابن جني مثالين فيهما ارتكاب أقل القبيحين فحشًا وهما:
المثال الأول: حكم الواو في كلمة وَرَنْتَل، والورنتل هو الداهية، والشر، والأمر العظيم، فإن المرء فيها بين ضرورتين أن يدَّعي أن هذه الواو أصلية، وأن يدعي أنها زائدة، وهما أمران قبيحان؛ لأن الواو لا تكون أصلية في ذوات الأربعة إلا مكررة نحو قولهم: الوصوصة، والوحوحة، والوصوصة مصدر الفعل الرباعي وَصْوَص أي: نظر في الوصوص الذي هو خرق في الستر ونحوه على قدر العين يُنظر فيه، والوحوحة مصدر الفعل الرباعي وحوح، يقال: وحوح الرجل صَوَّت مع بَحَح، أو نفخ في يده من شدة البرد. كما أنها -أي: الواو- لا تكون زائدة في أول الكلام، وقد ذكر ابن جني في كتابه (المنصف) "أن أبا عثمان المازني قال في (التصريف):"الواو لا تزاد أولًا البتة"، وحينما سأل ابن جني أستاذه أبا علي الفارسي وقت أن قرأ عليه امتناع زيادة الواو أولًا:"لم كان ذلك؟ فأجابه أبو علي: لأنها لو زيدت أولًا مضمومة؛ لاطرد قلبها همزة نحو: أُقِّتت، وبابه ولو زيدت مكسورة أيضًا؛ لجاز قلبها جوازًا كالمطرد نحو: إسادة وإفادة في وسادة ووِفادة، ولو زيدت مفتوحة حتى تحقر الكلمة لانضم أولها، فجاز قلبها همزة يريد تحقير وَزَّة وُزَيْزَة، ويجوز أُزيزة".
وواصل الفارسي حديثه مع تلميذه ابن جني قائلًا: "فلما كانت زيادتها تقود إلى هذا التغيير والقلب واللبس، ويكون ذلك فيها أثقل؛ لأنها زائدة رُفضت زيادتها أولًا فلم يُجز لذلك" انتهى. وذكر ابن جني أنه لا بد في ورنتل من ارتكاب أحد القبيحين: الحكم بأصالة الواو، أو الحكم بزيادتها، فلما كان الأمر كذلك كان القول بجعلها أصلًا أولى من القول بجعلها زائدة؛ لأن الواو قد تكون أصلًا في ذوات الأربعة على وجه من الوجوه أي: في حال التضعيف كما تقدم في الوصوصة والوحوحة ونحوهما، أما أن تزاد أولًا فإن هذا أمر لم يوجد على حال
من الأحوال، فكان ارتكاب ما هو موجود خيرًا من ارتكاب ما هو مفقود وليس بموجود.
والمثال الثاني: نحو: فيها قائمًا رجل، لما كان المتكلم بيْن أن يرفع قائمًا فيقول: فيها قائم رجل، فيجعل اسم الفاعل صفة متقدمة على موصوفها، وهذا لا يكون بحال من الأحوال، وبين أن ينصبه فيقول: فيها قائمًا رجل، فيجعل قائمًا حالًا من النكرة، وذلك مع قلته جائز. لما كان المتكلم لا بد من ارتكابه أمرًا من هذين الأمرين حمل المسألة على الحال فنصب، وإنما لم يجز أن تتقدم الصفة على الموصوف لأن الصفة لا تكون إلا تابعة، والتابع لا يتقدم على المتبوع، ولأن الصفة تجري مجرى الصلة في الإيضاح؛ فلا يجوز تقديمها على الموصوف، كما لا يجوز تقديم الصلة على الموصول، وإنما كان الأمر الأخير وهو جعل الصفة المتقدمة على موصوفها النكرة حالًا من النكرة قليل الورود؛ لأن أصل صاحب الحال أن يكون معرفة؛ لأنه محكوم عليه بالحال، وحق المحكوم عليه أن يكون معرفة؛ لأن الحكم على المجهول لا يفيد غالبًا، إذ للحال شبه بالخبر، ولصاحبها شبه بالمبتدأ، ومن هنا لم يكن صاحب الحال نكرة إلا بمسوغ يُقربه من المعرفة، كما لم يكن المبتدأ نكرة إلا بمسوغ.
ومن مسوغات تنكير صاحب الحال تقديم الحال عليه كالمثال المذكور، وقد أشار سيبويه في (الكتاب) إلى ذلك فقال: "هذا باب ما ينتصب، لأنه قبيح أن يوصف بما بعده، ويبنى على ما قبله، وذلك قولك: هذا قائمًا رجل، وفيها قائمًا رجل، لَما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم، وقبح أن تقول: فيها قائم، فتضع الصفة موضع الاسم، كما قبح: مررت بقائم، وأتاني قائم؛ جعلت القائم حالًا، وكان المبني على الكلام ما بعده. ولو حسن أن تقول: فيها قائم؛ لجاز: فيها
قائم رجل، لا على الصفة، ولكنه لما قال: فيها قائم قيل له: من هو وما هو؟ فقال: رجل أو عبد الله. وقد يجوز على ضعفه، وحُمل هذا النصب على جواز: فيها رجل قائمًا، وصار حين أُخر وجه الكلام فرارًا من القبح" انتهى. واستشهد سيبويه على ورود النصب على الحال من النكرة بقول ذي الرمة:
وتحت العوالي في القنا مستظلة
…
ظباء أعارتها العيونَ الجآذرُ
القنا: هي الرماح، وعواليها: صدورها، والجآذر: جمع جُؤذر أو جؤذر بضم الذال وفتحها، وهو ولد البقرة الوحشية. يصف الشاعر نسوة سُبِينَ أي: وقعن في الأسر، فصرن تحت سيطرة الرماح، والعرب تشبه النساء بالظباء في طول الأعناق وانطواء الكَشح أي: الخاصرة. والشاهد فيه نصب مستظلة على الحال، بعد أن كانت صفة لظباء متأخرة. وقد كان التقدير قبل تقديم الصفة: وتحت العوالي في القنا ظباء مستظلة، فلما صارت متقدمة؛ امتنع أن تكون صفة لها، لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف. كما استشهد سيبويه على ذلك أيضًا بقول الآخر:
وبالجسم مني بَيِّنًا لو علِمْتِه
…
شحوب وإن تستشهد العين تشهد
يذكر شحوبه وتغير جسمه تغيرًا ظاهرًا، لما يقاسي من الوجد بصاحبته، وأنها لو طلبت من عينها أن تشهد على ذلك لشهدت. والشاهد فيه تقديم بينًا على شحوب، ونصبه على الحال بعد أن كان صفة متأخرة، وأصله: وبالجسم مني شحوب بيِّن، فحدث فيه ما حدث في ما قبله، ومن شواهد سيبويه على ذلك أيضًا قول كثير:
لمية موحشا طلل
…
يلوح كأنه خِلَل
والطلل: ما شخص من آثار الديار، والموحش: مِن أوحش المنزل إذا ذهب عنه الناس وصار ذا وحشة، وهي الخلوة والهم، والخلل: جمع خِلة، وهي بطانة
يُوَشَّى بها غِمد السيف، وتكون منقوشة بالذهب وغيره، والشاهد فيه نصب موحشًا على الحال، وقد كان صفة في الأصل، وكان التقدير: لمية طلل موحش، فلما تقدم نصب على الحال. ويروى البيت الأخير في غير (الكتاب):
لعزة موحشا طلل قديم
…
عفاه كل أسحم مستديم
وعفاه بمعنى درَسه وغيَّره، والأسحم: هو الأسود، والمراد هنا السحاب؛ لأنه إذا كان ذا ماء يُرى أسود لامتلائه، والمستديم صفة كل، وهو السحاب الممطر المستمر مدة أقلها ثلث النهار، أو ثلث الليل، قيل: من روى البيت: لعزة موحشًا قال: إنه لكثير عزة، ومن رواه: لمية موحشًا قال: إنه لذي الرمة، فإن عزة تنسب لكثير، ومية تنسب لذي الرمة. وأكثر ما يكون فيه تقديم الصفة على الموصوف، وجعلها حالًا في الشعر، ولذلك عقَّب سيبويه على الشواهد الشعرية التي أوردها على ذلك بقوله:"وهذا كلام أكثر ما يكون في الشعر، وأقل ما يكون في الكلام". يعني: في الكلام الاختياري.
وأورد ابن جني في (الخصائص) مثالًا ثالثًا لتعارض القبيحين، والحمل على أقلهما قبحًا نذكره من باب إكمال النفع، وإن كان لم يرد في (الاقتراح). قال ابن جني:"وكذلك: ما قام إلا زيدًا أحد، عدلت إلى النصب" يعني ابن جني: أنه إذا تقدم المستثنى على المستثنى منه في غير الإيجاب أي: في النفي أو شبهه كالمثال المذكور الذي تقدم فيه المستثنى زيدًا على المستثنى منه أحد، وتقدَّم على الكلام أداة نفي، عدلْتَ عن الحكم الذي كان يستحقه هذا المستثنى لو لم يتقدم على المستثنى منه، وجاء في موضعه الأصلي وهو الرفع على الإتباع للمستثنى منه المرفوع، على أنه بدل بعض من كل عند البصريين، وعطف نسق عند الكوفيين؛ لأن "إلا" عندهم من حروف العطف في باب الاستثناء خاصة. قال ابن جني معللًا عدولك في نحو ما ذُكر من الإتباع إلى النصب: "لأنك إن رفعت لم
تجد قبله ما تُبدله منه -يعني: على رأي البصريين- وإن نصبت دخلت تحت تقديم المستثنى على ما استثني منه، وهذا -أي: تقديم المستثنى على المستثنى منه- وإن كان ليس في قوة تأخيره عنه، فقد جاء على كل حال، فاعرف ذلك أصلًا في العربية تحمل عليه غيره".
يعني ابن جني: أنك في نحو المثال المذكور بين أمرين كلاهما قبيح، ولا بد من ارتكاب أحدهما: أن ترفع المستثنى على الإتباع، لكنك لن تجد متبوعًا قبله تتبعه له، ولا يُتبع لما بعده عند أصحابه البصريين؛ لأن التابع لا يتقدم على المتبوع. والآخر أن تنصبه على الاستثناء، فتدعي تقديم المستثنى على المستثنى منه، وهذا مع ضعفه لمخالفته الأصل وارد على كل حال، أي: ومن ذلك قول الكميت يمدح آل هاشم:
وما لي إلا آلَ أحمد شيعة
…
وما لي إلا مذهب الحق مذهب
والأصل: وما لي شيعةٌ إلا آلُ أحمد وما لي مذهب إلا مذهب الحق، فلما قُدِّم المستثنى على المستثنى منه؛ وجب نصبه، وأراد بأحمد النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن يعيش في (شرح المفصل) مثالًا رابعًا لتعارض قبيحين، والحمل على أقلهما قبحًا وأقربهما فحشًا، وأثبت هذا المثال السيوطي في كتابه (الأشباه والنظائر). ذكر ابن يعيش أن حذف المضاف وإبقاء عمله ضعيف في القياس، قليل في الاستعمال. أما ضعفه في القياس فلوجهين؛ أحدهما: أن المضاف نائب عن حرف الجر وخَلَف عنه، فإذا حذفت المضاف فقد أجحفت بحذف النائب والمنوب عنه.
والوجه الثاني: أن المضاف عامل في المضاف إليه الجر، ولا يحسن حذف الجار وتبقية عمله، فمن ذلك قولهم في المثل: ما كل سوداء تمرةً ولا بيضاء شحمةً، وأوضح ابن يعيش موضع الشاهد في هذا المثل بإعرابه على النحو الآتي: أن
ترفع كلًّا بما الحجازية على أنه اسمها، وتخفض سوداء بالإضافة، والفتحة علامة الخفض؛ لأنه لا ينصرف لألف التأنيث الممدودة، وتمرة منصوب على أنه خبر ما، والواو عاطفة، وبيضاء مخفوض أيضًا على تقدير إضافته إلى لفظ كلٍّ أخرى محذوفة، كأنك لفظت بها فقلت: ولا كلُ بيضاءَ، وشحمة منصوب عطفًا على تمرة. وهذا الإعراب الذي ذكره ابن يعيش إنما هو على مذهب الخليل وسيبويه والبصريين، ونحن نلاحظ أن العطف فيه إنما هو على معمولي عامل واحد، فما بعد العاطف في التقدير وهو كل بيضاء معطوف على اسم ما، وهو كل سوداء. وشحمة بالنصب معطوف على خبر ما، وهو تمرة المنصوب، فالعامل واحد وهو ما الحجازية، والعطف من باب عطف المفردات، وفي هذا الإعراب قبح، وهو تقدير حذف الجار وهو لفظ كل الواقع مضافًا إلى لفظ بيضاء، وفي ذلك حذف للجار وتبقية للمجرور كما تقدم.
وقال ابن يعيش: "وكان أبو الحسن الأخفش وجماعة من البصريين يحملون ذلك، وما كان مثله على العطف على عاملين، وهو رأي الكوفيين، وذلك أن بيضاء جر عطف على سوداء، والعامل فيها كل وقوله: شحمة منصوب عطفًا على خبر ما أي: والعامل ما، ومثله عندهم: ما زيد بقائم ولا قاعد عمرو تخفض قاعدًا بالعطف على قائم المخفوض بالباء، وترفع عمرًا بالعطف على اسم ما، فهما عاملان الباء وما، كما كان في المثل عاملان: كل وما، قالوا: وقد عطفت شيئين على شيئين، والعامل فيهما شيئان مختلفان، وسيبويه والخليل لا يريان ذلك ولا يجيزانه، والحجة لهما في ذلك أن حرف العطف خلف عن العامل ونائب عنه، وما قام مقام غيره فهو أضعف منه في سائر أبواب العربية. فلا يجوز أن يتسلط على عمل الإعراب بما لا يتسلط ما أقيم مقامه، فإذا أقيم مقام الفعل؛