الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعارضة
من القوادح في العلة: المعارضة، ومعنى المعارضة كما قال الأنباري في (جدل الإعراب) و (لمع الأدلة) ونقله عنه السيوطي في (الاقتراح):"أن يعارض المستدل بعلة مبتدأة، أي: أن يعارض الخصم المستدل بعلة مستأنفة تقتضي خلاف مقتضى علة المستدل". وأوضح الأنباري أن العلماء قد اختلفوا في قبول المعارضة، فقال:"والأكثرون على قبولها؛ لأنها دفعت العلة أي: لأنها ردت العلة الأولى وعارضتها، وقيل: لا تقبل؛ لأنها تَصَدٍّ لمنصب الاستدلال، وذلك رتبة المسئول لا السائل، أي: وذهب بعض العلماء إلى عدم قبول المعارضة؛ لأنها تصد لمنصب الاستدلال. والتصدي معناه التعرض، وهو مصدر تصدى إليه أي: تعرض له أي: وإقامة الدليل منصب المستدل وهو المسئول لا منصب المعترض وهو السائل، ومنصب المعترض ووظيفته إنما هو منع دليل المستدل لا إقامة دليل".
قال الأنباري في (لمع الأدلة) ذاكرًا ما علل به الذاهبون إلى عدم قبول المعارضة: "فإن السائل هادم والمعارض بانٍ، والشخص الواحد لا يكون هادمًا بانيًا في حال واحدة"، وعلق الأنباري على ما ذكروه بقوله:"وهذا ليس بصحيح؛ لأن من حق السائل أن يعرض على العلة ويقفها، وقد وجد ها هنا، فإن العلة ما لم تسلم عن معارضة دليل لم يكن عليها تعويل، فوجب أن تكون - يعني: المعارضة- مقبولة صحيحة"، انتهى.
مثال المعارضة: أن يقول الكوفي في الإعمال -أي: في التنازع: إنما كان إعمال الأول أي: من العاملين المتنازعين أو العوامل المتنازعة، أولى؛ لأنه
سابق، وهو صالح للعمل، فكان إعماله أولى لقوة الابتداء به والعناية، أي: أن العامل الأول سابق العامل الثاني وهو صالح للعمل كالعامل الثاني، إلا أنه لما كان مبدوءًا به كان إعماله أولى؛ لقوة الابتداء والعناية به، ولهذا لا يجوز إلغاء "ظن" أو "كان" إذا وقعت أي منهما مبتدأةً، بخلاف ما إذا توسطت أو تأخرت. فيقول البصري: هذا معارض بأن الثاني أقرب إلى الاسم أي: من أن العامل الأول أبعد والثاني أقرب إلى الاسم، وليس في إعماله -أي: في إعمال الثاني- نقض معنى، فكان إعماله أولى، أي: من إعمال الأول. يعني: أن دليلك أيها الكوفي على اختيار الأول معارض بدليل من قبل البصريين على اختيارهم إعمال الثاني لا الأول، وهو أن الثاني يتميز بقرب الجوار، وأنه لا ينقض -أي: لا يغير- معنى، ومعنى هذا أن الثاني من العاملين أقرب إلى المعمول، وليس في إعماله حدوث خلل في المعنى، إذ لا فرقَ في المعنى بين إعمال الأول أو الثاني.
وتكتسب مع إعمال الثاني رعاية جانب القرب، وحرمة المجاورة، فقرب الثاني من المعمول يقتضي ألا يلغَى عنه، يدل عليه أن المجاورة توجب كثيرًا من أحكام الثاني للأول، والأول للثاني، ألا ترى إلى قولهم: الشمس طلعت وأنه لا يجوز فيه حذف التاء لما جاور الضمير الفعل، ولذلك يقولون: إن الفعل هنا وجب التأنيث؛ لماذا؟ لأن الفاعل ضمير يعود على مؤنث على الرغم من أن المؤنث هنا مجازي التأنيث، إلا أن تأنيث الفعل بالتاء واجب لمجاورة الضمير المستتر للفعل، وكذلك: قامت هند، لا يجوز حذف التاء لمجاورة المؤنث الظاهر للفعل، فلو فَصلتَ بينهما بفاصل ما جاز لك في هذه الحالة أن تحذف التاء، أي: جاز لك تذكير الفعل وتأنيثه، وما كان ذلك إلا رعايةً للمجاورة.
ومما يدل على رعايتهم جانب القرب والمجاورة، أنهم قالوا: جحر ضرب خرب، وماء شَن بارد، فأتبعوا الأوصاف إعراب ما قبلها وإن لم يكن المعنى عليه، فَجُحر -كما قلنا من قبل- خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا جحر، وهو مضاف، وضب مضاف إليه، ثم جاء النعت خرب، المفروض في المعنى أن يكون الخراب صفةً للجحر وليس صفةً للضب، ومع ذلك جاء الخراب أو جاء الوصف مجرورًا؛ مراعاةً لمجاورته للمجرور، وكذلك: ماء شن بارد، الشن: هو قِربة الماء، والشن لا يوصف بالبرودة وإنما الذي يوصف بالبرودة هو الماء في داخل الشن، فيقال: ماء شنٍ باردٌ، إلا أن المسموع عن العرب: ماء شنٍ باردٍ بالإتباع الشن على اللفظ بالجر؛ مراعاةً للجوار وإن لم يكن المعنى عليه. فإذا كانوا قد لحظوا المجاورة مع فساد المعنى، فالأحرى أن يلحظوها مع صراحه، ومع ذلك فقد أكد سيبويه أنه إذا حدث نقض للمعنى خرج الكلام من باب التنازع، ولذلك قال في قول امرئ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
…
كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
قال: "فإنما رفع؛ لأنه لم يجعل "القليل" مطلوبًا، وإنما كان المطلوب عنده الملك، وجعل "القليل" كافيًا، ولو لم يرد ذلك ونصب فسَدَ المعنى"، انتهى. يعني: أن الشاعر امرأ القيس رفع "قليلًا" بكفاني، قال:"كفاني قليل من المال" ولم ينصبه بأطلب، إذ الرواية جاءت برفع "قليل"، قال: لأنه إنما أراد: لو سعيتُ لمنزلة دنية كفاني قليل من المال، ولم أطلب الملكَ، وعلى ذلك معنى الكلام. فإذن هنا عاملان؛ العامل الأول: كفى، والعامل الثاني: أطلب، وجاء المعمول مرفوعًا، هذا الرفع متعلق بالعامل الأول، ولا يمكن أن يوجه إليه العامل الثاني، إذ لو وُجِّه إليه العامل الثاني لفسد المعنى، قال: لو سعيت لمنزلة دنية كفاني قليل
من المال ولم أطلب الملك. قال: وعلى ذلك معنى الكلام؛ لأنه قال في البيت الثاني:
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
…
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
المجد المؤثل: هو المجد المؤصل، ولو نصب بأطلب لاستحال المعنى؛ لماذا؟ لأن شرط هذا الباب أن يكون العاملان موجهين في المعنى إلى شيء واحد، ولو وجه كفاني وأطلب إلى "قليل" لفسد المعنى؛ لماذا؟ لأن "لو" تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، فإذا كان ما بعدها مثبتًا كان منفيًّا، وإذا كان ما بعدها منفيًّا تحول بمقتضاها إلى مثبت، وعلى هذا فقوله:"أنما أسعى لأدنى معيشة" منفي بمقتضى لو؛ لأنه جاء مثبتًا، فأفاد عدم السعي لأدنى معيشة، و"لم أطلب" مثبت بمقتضى لو أيضًا؛ لأنه جاء منفيًّا، فلو وجه إلى "قليل" لوجب إثبات طلب القليل، وهو عين ما نفاه أولًا، وإذا بطَلَ ذلك تعين أن يكون مفعول أطلب محذوفًا تقديره: ولم أطلب الملك بدليل البيت الذي بعده.
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.