الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأسماء؛ لأنها أسماء كما أنها أسماء"، يريد بهذا الوجه تشبيه ما وقع في الشعر بما وقع في الكلام. ثم أشار إلى الوجه الثاني بقوله: "وقد يبلغون بالمعتل الأصل، فيقولون: رادد في رادٍّ، وضننوا في ضنُّوا، يريد الرد إلى الأصل".
والخلاصة المستنبطة من موقف سيبويه من الضرورة الشعرية: أنه يرى أن العلل النحوية من الوثاقة والقوة بمكان عظيم، وأنها أبعد ما تكون عن الضعف والتمحل، وذلك أنه إذا كان لا مفرَّ من أن يكون لكل ضرورة شعرية يرتكبها الشاعر وجه صحيح في القياس المعتمد تُحمل عليه حتى تكون مقبولة جائزة، وإلا عُدَّت خطأ لخروجها عن قياس العربية، مع أن الشعر لغة العاطفة والوجدان، فإن الأمر بالنسبة إلى ما وراء لغة الشعر، وهو الكلام المنثور أشد وأقوى. ووجه الضرورة هو ما نسميه بالعلة النحوية، وسواء كانت هذه العلة علة تشبيه، أو علة أصل أو غيرهما، إن سيبويه قد رسخ أصلًا واجب الاتباع، ووضع قانونًا لازم العمل به، وأطلق دعوة تحث على البحث والتقصي عن علل الضرائر الشعرية؛ بل والبحث والتقصي في ضوئه وعلى هديه عن علل ما وراء ذلك من الكلام، وعدم التسمح في ذلك، فهل يقال بعد هذا: إن العلة النحوية ضعيفة واهية.
رأي ابن جني وابن الفرخان صاحب (المستوفى) في وثاقة العلة النحوية
إن الحديث عن رأي ابن جني في وثاقة العلة النحوية بعدما قدمناه عنه يُعدُّ من نوافل القول: إن هذا العالم رحمه الله ينبغي أن نسميه بحق عاشق العربية، لقد انتهج منهج الفقهاء في استنباط العلل، وكانت غايته -كما ذكرنا- أن يبين حكمة العرب في لغتهم، ويفند حجة من ادَّعى ضعف عللهم، ولأجل هذا راح يبحث عن مكان العلة النحوية بالنسبة لعلل المتكلمين، وعلل الفقهاء، وانتهى إلى أنها أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل الفقهاء.
إن هذه النتيجة التي انتهى إليها تدل على مدى اعتداده بالعلة النحوية، واستناده إلى وثاقتها. وقد أوضح من بداية الأمر أنه إنما يعني علل الحذاق المتقنين من النحويين، لا علل ألفافهم المستضعفين، فإن شأن هؤلاء الأخلاط الضعف وعدم استحكام القوة. وكان يرى أن العلة أصيلة في نفوس العرب، وقد أصابت من قوة النظر عندهم وسلامة الحس اللغوي فيهم حظًّا وافرًا يقول:"سألت يومًا أبا عبد الله محمد بن العساف الجوثي التميمي، تميم جوثة، فقلت له: كيف تقول: ضربت أخوك؟ فقال أقول: ضربت أخاك، فأدرته على الرفع يعني: حاولت إلزامه إياه فأبى، وقال: لا أقول: أخوك أبدًا، قلت: فكيف تقول: ضربني أخوك؟ فرفع، فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدًا، فقال: أيش هذا اختلفت جهتا الكلام".
قال صاحب (إرشاد الأريب): "فهل قوله -يعني: قول الجوثي: اختلفت جهتا الكلام، إلا كقولنا: هو الآن فاعل، وكان في الأول مفعولًا، فانظر إلى قيام معاني هذا الأمر في أنفسهم، وإن لم تقطع به عبارتهم". ويقول ابن جني: "فإن قلت: فما تنكر أن يكون ذلك شيئًا طُبعوا عليه وأُجيئوا إليه من غير اعتقاد منهم لعلله، ولا لقصد من القصود التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه، بل لأن آخرًا منهم حذا أي: تبع وسلك على ما نهج الأول يعني: على ما سار عليه الأول فقال به، وقام الأول للثاني لكونه إمامًا له فيه مقام من هدى الأول إليه، وبعثه عليه ملكًا كان أو خاطرًا، قيل: لن يخلو ذلك أن يكون خبرًا رُوسِلُوا به، أو تيقظًا نُبهوا على وجه الحكمة فيه، فإن كان وحيًا أو ما يجري مجراه؛ فهو أنبه له، وأذهب في شرف الحال به، لأن الله سبحانه إنما هداهم لذلك، ووقفهم عليه؛ لأن في طباعهم قبولًا له، وانطواء على صحة الوضع فيه؛ لأنهم مع ما قدمناه عنهم من ذكر كونهم عليه من لطف الحس وصفائه، ونصاعة جوهر
الفكر ونقائه، لم يؤتوا هذه اللغة الشريفة المنقادة الكريمة إلا ونفوسهم قابلة لها، محسة لقوة الصنعة فيها، معترفة بقدر النعمة عليهم بما وهب لهم منها".
فإذا انتقلنا إلى محاولة التعرف على رأي عالم آخر في مدى وثاقة العلة النحوية، وهو أبو سعد علي بن مسعود كمال الدين الفرخان الذي عاش -كما قال محقق كتابه على وجه التقريب- في أواخر القرن السادس ومنتصف القرن السابع، وجدناه يحتفي بالعلة النحوية غاية الاحتفاء، ويهتم بها كمال الاهتمام، فلا تكاد صفحة من صفحات كتابه (المستوفى في النحو) تخلو من حديث عن العلة، ويقول في مقدمة كتابه: "وأنت إذا استقريت أصول هذه الصناعة؛ علمت أنها في غاية الوثاقة، وإذا تأملت عللها؛ عرفت أنها غير مدخولة ولا متسمح فيها.
فأما ما ذهب إليه غفلة العوام من أن علل النحو تكون واهية سخيفة، ومتمحلة بالوضع ضعيفة، واستدلالهم على ذلك بأنها قد تكون هي تابعة للوجود لا الوجود تابعًا لها، فبمعزل عن الحق، وذلك أن هذه الأوضاع والصيغ التي في أيدينا اليوم إن كنا نحن نستعملها، فليس ذلك على سبيل الابتداء والابتداع، بل على وجه الاقتداء والاتباع، ولا بد فيها من التوقيف إما مفردًا، وإما مع الاصطلاح على ما تحقق في غير هذا من العلوم. فنحن إذا صادفنا الصيغ المستعملة والأوضاع المحصلة بحال ما من الأحوال، وعلمنا أنها كلها أو بعضها من وضع حكيم تعالى وجل، تطلبنا بها وجه الحكمة لما خُصص لتلك الحال من بين أخواتها، فإذا حصلنا عليها فذلك غاية المطلوب، أترى أن أحدًا يُنكر الفائدة في علل التشريح المثبتة في كتب الطب التي شأنها شأن هذه، وليس إذا جهلنا علة لمسألة واحدة؛ أوجب ذلك أن نجهل ما كنا حصلناه قبل أو أحطنا به بإذن الله تعالى".
ولقد حرصنا أن نذكر كثيرًا من الألفاظ التي ذكرها ابن الفرخان كما ورد في كتابه، حتى نقف على صحيح وجهة نظره. لقد وصف العلة النحوية بأنها عند التأمل غير مدخولة بالنقض والإبطال، ولا متسمَّح فيها بعدم التثبت والتحقق، ورفض ما ادَّعاه بعضهم من كونها ضعيفة أو متمحلة أي: مصنوعة بالاحتيال والتكلف، وذلك أن استدلالهم على ذلك بكونها تابعة للوجود أي: بكونها مناسبات تُذكر بعد وقوع الحكم النحوي، فتجري على حسب ما وددته إن كان قويًّا أو ضعيفًا، وليس الوجود تابعًا لها كما هو شأن العلة الحقيقية، فإن الحكم دائر معها وجودًا وعدمًا لا العكس. ومن الواضح أن رأي ابن الفرخان ليس محل الموافقة من العلماء، لما فيه من غلوٍّ غير مقبول، فأن نقول بالتوقيف في اللغة فلا مانع، أما أن نقول: إن العلل توقيفية، فذلك ضرب من ضروب الغلو والإغراء؛ إذ كيف يقال هذا في حين أن الخليل صرح باختراعه الكثير منها.
يقول الدكتور مازن المبارك: "ولا شك أن نظرتنا إلى علل النحو على أنها مزعومة مستنبطة لا تروق الذين يجلون هذه العلل، ويعتقدون أنها فوق ما ندعيه مكانة وأصالة وثباتًا، وأما الذين يبالغون في تقديس هذه العلل، فلن يكون لنا في ودهم نصيب، وسيرفضون كل ما نقول، وكيف لا، وفيهم من يغلو به الظن؛ حتى يزعم أن علل النحو توقيفية".
قال صاحب (المستوفى): "إذا استقريت أصول هذه الصناعة" إلى آخر ما قال. وذكر ملخص ما قال ابن الفرخان وقال: "أفإن كان صاحب (المستوفى) يقول بالتوقيف في اللغة، أفيقول ذلك في كل ما يتصل باللغة من أوضاعها من نحو وعلل، ثم إن كانت اللغة هي التوقيفية، وهي التي نستعملها على وجه الاقتداء والاتباع، أفلسنا نحن الذين تطلبنا وجه الحكمة المخصصة لحال من أحوال تلك
اللغة كما يقولون، وما يمنع ما دمنا نحن المتلمسين للحكمة أن نضل، وما يمنع ما دمنا نحن الباحثين عن العلة، والذاكرين لها أن نأتي منها بالمدخول والمتسمَّح فيه، وما ليس في غاية الوثاقة".
ولم يكتفِ الدكتور مازن بما ساق من أدلة للرد على ما قال ابن الفرخان، بل استدل على دحض هذا القول بأدلة أخرى منها: تصريح الخليل بن أحمد باختراعه الكثير من هذه العلل، وذكر ابن جني عن شيخه الفارسي أنه أتى بثلث ما جاء به النحاة من علل النحو، وأن تلك العلل بنتُ الطبع، وليست بنت الشرع، وتبيين السيوطي أن هذه العلل مستنبطة بالفكر والروية بقوله:"النحو بعضه مسموع مأخوذ من كلام العرب، وبعضه مستنبط بالفكر والروية وهو التعليلات، وبعضه يؤخذ من صناعات أخرى".
هذا وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.