الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالوا: القول قول الكسائي، ولم ينطقوا بالنصب، وإن سيبويه قال: يحيى مُرهم أن ينطقوا بذلك، فإن ألسنتهم لا تُطَوَّع به"، ثم قال ابن هشام: "فإذا هو إياها إن ثبت، فخارج عن القياس، واستعمال الفصحاء كالجزم بلن، والنصب بلَم، والجر بلعل، وسيبويه وأصحابه لا يلتفتون لمثل ذلك، وإن تكلم به بعض العرب" انتهى.
مما رجح فيه رأي الكوفيين
سبق أن ذكرنا قول أبي حيان: "ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة"، وعبارة أبي حيان بتمامها كما جاءت في (البحر المحيط) وفي (النهر الماد) بهامش (البحر المحيط)، وكلاهما لأبي حيان قال:"ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة، ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية لا أصحاب الكنانيس، المشتغلون بدروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ" انتهى.
وقد قال أبو حيان هذه المقولة في مسألة من مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، وهي مسألة عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وهي من المسائل القليلة التي رجح فيها المذهب الكوفي على المذهب البصري، فقد ذهب البصريون إلى أن الاسم الظاهر لا يجوز عطفه على الضمير المجرور إلا بعد إعادة الجار، فيقال: مررت بك وبزيد، وهذا كتابك وكتاب عمرو، كما في قوله تعالى:{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ} (فصلت: 11)، وكما في قوله
تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون: 22)، فإن جاء في الكلام عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور دون إعادة الجار؛ كان ذلك قبيحًا عند البصريين، لقول سيبويه رحمه الله في (الكتاب):"ومما يقبح أن يَشْرَكَه المظهر علامة المضمر المجرور، وذلك قولك: مررت بك وزيد، وهذا أبوك وعمرو، كرهوا أن يشرك المظهر مضمرًا داخلًا فيما قبله" انتهى.
وذهب الكوفيون إلى جواز عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، واختار مذهبهم بعض المتأخرين، ومنهم أبو حيان معللًا اختياره هذا المذهب بقوله:"لوقوعه في كلام العرب كثيرًا شعرًا ونثرًا" انتهى. فمن الشعر قول الشاعر:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا
…
فاذهب فما بك والأيامِ من عجل
فقوله: "والأيام" عطف على الضمير المجرور في بك، ومنه قول الشاعر:
إذا أوقدوا نارًا لحرب عدوهم
…
فقد خاب من يصلى بها وسعيرها
فسعيرها مجرور عطفًا على الضمير في بها دون إعادة الجار، ومنه قول الشاعر:
نعلق في مثل السواري سيوفنا
…
وما بينها والكعب غُوطٌ نَفَانِف
فعطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور في بينها دون إعادة الجار، ومن النثر قول بعض العرب: ما فيها غيره وفرسه، بجر فرسه عطفًا على الضمير في غيره، دون إعادة الجار، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنما مثلكم واليهود والنصارى)) بجر اليهود والنصارى عطفًا على الضمير في قوله: ((مثلكم)) دون إعادة الجار. ولما كثر في كلام العرب شعرًا ونثرًا عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، أجاز بعض معربي القرآن الكريم -ومنهم أبو حيان رحمه الله-
حمل بعض الآيات الكريمة عليه، فحملوا عليه قوله تعالى:{قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (البقرة: 217)، فـ {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} معطوف على الضمير في {بِهِ} ، كما حملوا عليه قوله تعالى:"وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ"(النساء: 1) بجر "الْأَرْحَامِ" في قراءة حمزة عطفًا على الضمير في {بِهِ} دون إعادة الجار، وقد رجح أبو حيان مذهب الكوفيين على مذهب البصريين. ومن تمام الفائدة نذكر هنا أن للبصريين فيما ذهبوا إليه حجتين:
الأولى: أن ضمير الجر شبيه بالتنوين ومعاقِب له، فلم يجز العطف عليه كما لا يجوز العطف على التنوين. والثانية: أن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يصح حلول كل واحد منهما محل الآخر، وضمير الجر لا يصح حلوله محل ما يعطف عليه، فيمنع العطف إلا بإعادة الجار، والحجتان ضعيفتان. أما الأولى: فيدل على ضعفها أن شبه الضمير بالتنوين ضعيف، فلا يترتب عليه إيجاب ولا منع، ولو منع من العطف عليه لمنع من توكيده، ومن الإبدال منه، وضمير الجر يؤكَّد، ويبدل منه بإجماع؛ فالعطف عليه أسوة بالتوكيد والبدل.
وأما الثانية: فيدل على ضعفها أنه لو كان حلول كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه شرطًا في العطف؛ لم يجز قولهم: رُب رجل وأخيه ونحوه؛ لأنه لا يصح حلول أخيه محل رجل، إذ إن رُب تختص بالدخول على النكرات، فلما جاز: رب رجل وأخيه؛ دلَّ على أن حلول كل واحد من المعطوف والمعطوف
عليه ليس شرطًا، ولو كان حلول كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه شرطًا في العطف لم يجز قولهم: كم ناقةٍ لك وفصيلِها، ولم يجز: الواهب الأَمةِ وولدِها، ولم يجز: زيد وأخوه منطلقان، وأمثال ذلك من المعطوفات الممتنع تقدمها وتأخر ما عُطفت عليه، وفي ذلك وارد كثيرًا، فكما لم يمتنع فيها العطف لم يمتنع عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، فبطل ما تمسك به البصريون، وكان مذهب الكوفيين في هذه المسألة من المسائل القليلة الذي يُعد فيها راجحًا، ويكفي دليلًا على رجحانه كثرة الوارد منه في كلام العرب شعرًا ونثرًا، وهذا وحده دليل قوي.
هذا والله ولي التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.