الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكوفة الكبير، فقد قال:"أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر، فبخلوا عليَّ به، فكنت أعطيهم المنحول، وآخذ الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم أنا تائب إلى الله تعالى، هذا الشعر لي، فلم يقبلوا مني، وبقي منسوبًا إلى العرب لهذا السبب".
ويتابع الأفغاني حديثه فيقول: "أما راويتهم الأكبر حماد فهو الشمس شهرة في كذبه، ووضعه"، وينقل كلمة للمفضل الضبي عنه وهي:"قد سُلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا، فلا يزال يقول الشعر يُشبه به مذهب رجل من الأقدمين، ويدخله في شعره، ويحمل عنه ذلك في الآثار، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك؟ ".
احتكاك المدرستين عن طريق المناظرات النحوية
إن الاختلاف في الآراء ووجهات النظر أمر من لوازم الطبيعة الإنسانية جعله الله بين بني البشر، فالقدرة على التفكير، وكيفية معالجة الأمور، ودرجة استيعاب العقول، والفطنة في استنباط الأدلة، كل هذه الأمور متفاوتة عند بني الإنسان. لذلك كان لا بد من الخلاف والاختلاف، وتلك فطرة الله التي فطر الناس عليها. ومن هنا كان من الأمور الطبيعية أن يحدث الخلاف والاحتكاك بين علماء البصرة وعلماء الكوفة، بل كان يحدث أحيانا بين علماء المدرسة الواحدة، والذي يعنينا هنا أن نلقي الضوء على مسألة خلافية مشهورة في تاريخ النحو العربي، وهي التي تُسمى المسألة الزنبورية، وهي توضح لنا صورة من صور التنافس بين المدرستين الكبريين، وهما مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، ويمثل كل مدرسة
منهما رئيسها، وأعني بهما: سيبويه رئيس مدرسة البصرة، والكسائي رئيس مدرسة الكوفة.
والمسألة الزنبورية هي المسألة التاسعة والتسعون في كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف)، وقد حفلت بها كتب العلم والأدب، واهتم بها علماء التراجم والطبقات، وقد بدأها أبو البركات الأنباري في (الإنصاف) بقوله:"ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يقال: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو إياها، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقال: فإذا هو إياها، ويجب أن يقال: فإذا هو هي".
أما الكوفيون فاحتجوا بالحكاية المشهورة بين الكسائي وسيبويه، وسرد الأنباري الحكاية كما ذكرها غيره، ونمزج هنا قليلًا بين ما يرويه الأنباري الذي أيَّد سيبويه في هذه المسألة، وبين ما يرويه الزجاجي في كتابه (مجالس العلماء)؛ حيث يروي لنا هذه المسألة على لسان علم من أعلام الكوفيين كان أحد شخصيات القصة، وأحد المحركين لأحداثها، وهو أبو زكريا الفراء الذي كان الساعد الأيمن لشيخه الكسائي؛ رغبة منا في الوصول إلى الحقيقة مجردة من التعصب لفريق من الفريقين.
تقول القصة: إن سيبويه قدم على البرامكة، وهم الذين كانوا وزراء الرشيد، وأصحاب الحظوة عنده، وذكر الفراء أن يحيى بن خالد البرمكي وزير الرشيد عزم على الجمع بينهما أي: بين سيبويه والكسائي، وجعل يحيى للمناظرة يومًا حضر فيه سيبويه مجلس يحيى وعنده ولداه جعفر والفضل، ومن حضر بحضورهم من الأكابر، كما حضره عدد من علماء الكوفة على رأسهم تلميذا الكسائي علي بن الحسن المعروف بالأحمر، والمتوفى سنة أربع وتسعين ومائة من
الهجرة، وأبو زكريا الفراء، فتقدَّم الأحمر على سيبويه قبل حضور الكسائي فسأله عن مسألة، فأجابه سيبويه، فقال له الأحمر: "أخطأت، ثم سأله عن ثانية، فأجابه فيها فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثالثة فأجابه سيبويه فيها، فقال له: أخطأت.
فقال له سيبويه: هذا سوء أدب، ويذكر الفراء أنه أقبل على سيبويه فقال له: إن في هذا الرجل حدة وعجلة، ولكن ما تقول في من قال: هؤلاء أبونا، ومررت بأبينا، كيف تقول على مثال ذلك مِن وَأيت أو أويت؟ فقدَّر فأخطأ، هكذا يحكي الفراء، فقلت -والكلام على لسان الفراء: أعد النظر، فقدَّر فأخطأ، ثلاث مرات يجيب ولا يصيب، فلما كثر ذلك عليه قال: لا أكلمكما، أو يحضر صاحبكما حتى أناظره، قال: فحضر الكسائي، فأقبل على سيبويه فقال: تسألني أو أسألك؟ فقال له سيبويه: لا، بل سلني أنت، فأقبل عليه الكسائي فقال: كيف تقول: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب، فقال له الكسائي: لحنت، ثم سأله عن مسائل من هذا النوع نحو: خرجت فإذا عبد الله القائمُ أو القائمَ. فقال سيبويه في ذلك كله بالرفع، دون النصب.
فقال الكسائي: ليس هذا من كلام العرب، والعرب ترفع ذلك كله وتنصبه، فدفع سيبويه قوله ولم يجز فيه النصب. فقال له يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد اجتمعت من كل أوب، ووفدت عليك من كل صُقْع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المِصْرَيْن، وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم، فيحضرون، ويُسألون، فقال له يحيى وجعفر: لقد أنصفت، وأمر بإحضارهم،
فدخلوا وفيهم أبو فَقْعَس، وأبو زياد، وأبو الجراح، وأبو ثروان، فسُئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فتابعوا الكسائي، وقالوا بقوله.
فأقبل يحيى أو الكسائي على سيبويه فقال: قد تسمع أيها الرجل، فاستكان سيبويه أي: خضع، وأقبل الكسائي على يحيى فقال له: أصلح الله الوزير إنه وفد عليك من بلده مؤمِّلًا، فإن رأيت ألا تردَّه خائبًا، فأمَر له بعشرة آلاف درهم، فخرج سيبويه وصير وجهه إلى فارس، وأقام هناك إلى أن مات، ولم يعد إلى البصرة". وقد اجتمعت كلمة العلماء المنصفين على أن سيبويه قد خُذل في هذه المسألة ظلمًا وعدوانًا، وذكروا أن الحق كان مع سيبويه، وأن ما قاله هو الحق الذي له وجهه الموافق لما في القرآن الكريم من وقوع الجملة الاسمية بعد إذا التي للمفاجأة نحو قوله تعالى:{فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} (الأعراف: 108)، وقوله عز وجل:{فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} (طه: 20).
وقال ابن الشجري في أماليه: "وإنما أنكر سيبويه النصب؛ لأنه لم يره مطابقًا للقياس، ولم ير له وجهًا يُقارب الصواب، ولما لم يظفر الكسائي بحجة قياسية يدفع بها إنكار سيبويه للنصب؛ كان قصاراه الالتجاء إلى السماع، والتشبث بقول أعراب أُحضروا، فسئلوا عن ذلك، وكان للكسائي بهم أَنَسَة، وسيبويه إذ ذاك غريب طارئ عليهم، وذكر قوم من البصريين أن الكسائي قد جعل لهم جعلًا استمالهم به إلى تصويب قوله، وقيل: إنما قصد الكسائي بسؤاله عما علم أنه لا وجه له في العربية، واتفق هو والفراء على ذلك ليخالفه سيبويه، فيكون الرجوع إلى السماع، فينقطع المجلس عن النظر والقياس" انتهى.
وقال ابن هشام: "يقال: إنهم -أي: العرب الذين استشهد بهم الكسائي- قد أُرشوا على ذلك، أو إنهم علموا منزلة الكسائي عند الرشيد، ويقال: إنهم إنما