الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي عشر
(الاستصحاب)
نظرة تأريخية في ظهور مصطلح "استصحاب الحال" في علم أصول النحو
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه؛ أما بعد:
عرفنا فيما سبق أنّ أصول النحو هي -كما ذكر أبو البركات الأنباري في بداية كتابه (لُمع الأدلة) - أدلة النحو التي تفرّعتْ منها أصولُه وفروعُه، كما أنّ أصول الفقه: هي أدلة الفقه التي تنوعتْ عنها جملتُه وتفصيلُه. كما عرفنا أنّ أدلة النحو التي اعتمد عليها علماء الصناعة النحوية في تقعيد القواعد كثيرةٌ جدًّا تخرج عن حدّ الحصر، لكنّ الغالب منها أربعةٌ، وهي: السماع، والقياس، والإجماع، واستصحاب الحال، وأنّ ابن جني في (الخصائص) لم يذكر استصحابَ الحال، وإنما أثبته الأنباري فقط.
ولعلّك تعجب حينما ترى عَلَمًا في مكانة ابن جني، وهو في مقدمة علماء أصول النحو، لا يذكر هذا الدليل في أدلة النحو، في حين ترى أنّ أبا البركات الأنباريَّ -وهو الذي جاء بعده بما يقرب من قرنين من الزمان- هو الذي يثبته بعدِّه دليلًا من الأدلة الغالبة في النحو العربي، بل يزداد عجبُك حينما تعلم أنّ مصطلح استصحاب الحال لم يظهر في عِلم أصول النحو إلا عن طريق أبي البركات الأنباري، على الرغم من أنّ سيبويه قد استدلّ به في مواضعَ كثيرةٍ من (الكتاب).
وحقيقةُ الأمر أنّ أبا البركات الأنباري قد نقل مصطلحَ استصحاب الحال من أصول الفقه إلى أصول النحو، وقد عرفنا من قبل العَلاقة الوثيقةَ بين علمي أصول الفقه وأصول النحو، ومدى تأثُّر كلٍّ من العِلْمين بالآخَر؛ فقد كان تعلُّمُ العربية عند المسلمين من الواجبات الدينية التي لا يجوز التفريط فيها، وكان تعلُّمُها شرطًا أساسيًّا من الشروطِ التي يجب توافرُها فيمن يريد أن يصبح مجتهدًا يقوم باستنباطِ الأحكام الشرعية من مصدريْها: الكتاب، والسنة، أو يريد أن يتصدَّى للإفتاء أو القضاء كما نصّ على ذلك علماءُ الفقه وأصوله.
قال ابن فارس في كتابه (الصاحبِي): "إنّ العِلْم بلغة العرب واجبٌ على كل متعلِّقٍ من العِلْم بالقرآنِ والسنةِ والفُتيا بسبب، حتى لا غَناءَ بأحد منهم عنه. وذلك أنّ القرآن نازِلٌ بلغة العربِ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم عربيٌّ. فمَن أراد معرفة ما في كتاب الله -جلّ وعزّ- وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل كلمة غريبةٍ أو نظْم عجيبٍ لم يجد من العلْم باللغة بُدًّا". انتهى كلام ابن فارس في كتابه (الصاحبي).
إذن، فعلاقة علم النحو بعلم الفقه واضحة جلية، وجاء أبو البركات الأنباري فوطَّدَ تلك العلاقةَ، وأكّد ارتباطَ علم أصول النحو بعلم أصول الفقه، وكثمرةٍ من ثمراتِ هذا الارتباطِ وجدناه يُظهر مصطلحَ استصحاب الحال في أدلة النحو، بل ويَعُدّه أحدَ الأدلةِ الغالبة، فقال في (لمع الأدلة) في الفصل الذي عقده للحديث عن أدلة النحو:"أقسام أدلته ثلاثة: نقلٌ، وقياسٌ، واستصحابُ حالٍ". كما اهتم بتعريف الاستصحاب والتمثيل له في كتابه (الإغراب في جدل الإعراب)، وإن كان هذا الدليل بهذا المصطلح -كمصطلح- لم يظهر قبل أبي البركات فيما نعلم، فإنه كدليل وجدناه في مواضعَ من كتاب سيبويه -كما قدمنا- وفي مؤلفات مَن جاء بعده من البصريين والكوفيين. فالاستصحاب مصطلحٌ فقهيٌّ في الأصل، أمّا معناه لغةً: فهو الاستفعالُ من الصحبة، وهي الملازمة واستمرار الصحبة واستدامتها. يقال: استصحبَ الشيءَ: لازمَهُ. ويقال: استصحبَ الرجلَ: دعاه إلى الصُّحبة. واستصحبَه الشيءَ: سألَه أن يجعلَه في صُحبتِه. وكلُّ ما لازمَ شيئًا فقد استصحبَه. قال الشاعر:
إنَّ لك الفضلَ على صُحبتِي
…
والمِسْكُ قد يَسْتصْحِبُ الرَّامِكا
والرَّامِكُ: نوعٌ من الطِّيب رديءٌ خسيس. وله عند الأصوليين تعريفاتٌ مختلفةٌ؛ منها: بقاءُ الأمر ما لم يوجد ما يُغيِّرُه. ومنها: استدامةُ ما كان ثابتًا، ونفيُ ما كان منفيا. ومنها: الحكمُ على الشيء بما كان ثابتًا له أو منفيًّا عنه؛ لعدم قيام الدليل