الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على تغييره. ومنها: ما ثبت في الزمن الماضي، فالأصل بقاؤُه في الزمن المستقبل. وهذه التعريفاتُ مختلفةٌ في ألفاظها، لكنّ معانيَها متقاربةٌ؛ بل هي ترجِعُ إلى معنًى واحدٍ، وهو: إبقاءُ ما كان على ما كان حتى يقوم الدليلُ على تغيُّر حالِه. فالاستصحاب -في ضَوْء المعنيين اللغوي والاصطلاحي- عند الأصوليين هو: مصاحبة حكم كان ثابتًا في الماضي باقيًا في الحاضر، حتى يأتي دليلٌ على تغييره، مع بذل الجهد في البحث والطلب.
وقد نَقَل هذا المصطلحََ أبو البركات -عبدُ الرحمن كمالُ الدين الأنباريُّ في القرن السادس الهجري- من أصول الفقه إلى أصول النحو. ويُعرِّف الأنباريُّ استصحاب الحال في كتابه (الإغراب في جدل الإعراب) بقوله: "وأمّا استصحابُ الحالِ فإبقاءُ اللفظِ على ما يستحقّه في الأصل عند عدم دليل النقل عن الأصل، كقولك في فعل الأمر: إنما كان مبنيًّا؛ لأنّ الأصلَ في الأفعال البناءُ، وإنّ ما يُعرب منها لشبَه الاسم، ولا دليلَ على وجود الشبَه، فكان باقيًا على الأصل في البناء". انتهى. وعليه، فلا يختلف تعريف الاستصحاب عند الأصوليين عن تعريفه عند النحويين؛ فالمعنى واحدٌ، وهو إبقاءُ الحكمِ على ما كان عليه، فلا يلحقه تغييرٌ إلا إذا قام الدليلُ على هذا التغييرِ.
من مسائل الاستصحاب في النحو العربي
عرفنا أنه لم يَستعمل أحدٌ من النحاة -قبل الأنباري- مصطلحَ استصحاب الحال، ولا يعني هذا عدمَ استدلالهم به؛ فقد قيل: إنَّ سيبويه استدلّ بهذا الدليل في مواضعَ كثيرة من كتابه وإن لم يصرح به، ولم يسمه استصحابَ الحال، أو استصحابَ الأصل، ومن هذه المواضع ما جاء في (الكتاب) من قوله: "واعلم أنّ بعض الكلام أثقلُ من بعض؛ فالأفعالُ أثقلُ من الأسماءِ؛ لأنَّ
الأسماءَ هي الأُولى". فأشار سيبويه بهذه العبارة إلى خِفة الأسماءِ المنصرفةِ، وأنّ الصرفَ فيها هو الأولُ والأصلُ، وأنّ الذي مَنع الصرفَ عِلَلٌ مِن بعد ذلك دخلتْ عليها -أي: على الأسماء- فهي عللٌ حادِثةٌ فرعيةٌ، فدَلّ هذا على أنّ الفعلَ أثقلُ من الاسمِ في الأصل؛ فعِلةُ كونِ الأسماء مستحقةً للصرف هي استصحابُ الأصل، وهي بعينها علةُ استحقاقِ الأفعال عدمَ الصرف.
ومن هذا القَبيل قوله: "واعلم أنّ النكرة أخفُّ عليهم من المعرفةِ، وهي أشدُّ تمكُّنًا؛ لأنّ النكرةَ أولُ، ثم يدخل عليها ما تُعَرَّفُ به، فمِن ثَمَّ أكثرُ الكلام ينصرف في النكرة. واعلم أنّ الواحدَ أشدُّ تمكُّنًا من الجميع؛ لأنّ الواحدَ أولُ، ومِن ثَمَّ لَمْ يصرفوا ما جاء من الجميع ما جاء على مِثالٍ ليس يكون للواحد، نحو: مساجدَ ومفاتيحَ. واعلم أنَّ المذكر أخفُّ عليهم من المؤنث؛ لأنّ المذكرَ أولُ، وهو أشدّ تمكنًا، وإنما يخرج التأنيثُ من التذكيرِ".
وفي قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43، 44). ذهب سيبويه في (الكتاب) إلى أن لعل على بابها من الترجي، وأن الترجيَ في حق موسى وهارونَ عليهما السلام وأن المعنى: اذهبَا أنتما في رجائِكما وطمعكما ومَبلغِكما من العلم. ففي كلام سيبويه إبقاءُ ما كان على ما كان، أي: إبقاءُ لعلَّ على معناها الأصلي، وهو الترجي، فبقي حالُ اللفظِ على ما يستحقه، ولم ينتقل عن أصلِه؛ لعدمِ الدليلِ، وهذا هو الاستصحابُ، وإن لم يُسَمِّهِ سيبويه باسمه.
وإذا كان سيبويه قد استدل باستصحابِ الحالِ في كتابه، فقد اقتفى أثرَه كثيرٌ من العلماء بعده، منهم الزجاجيُّ في كتابه (الإيضاح في علل النحو)، وابنُ جني في كتابه (الخصائص). أما الزجاجي فقد ذكر أن الحروفَ كلَّها مبنيّةٌ ولا يُعرَب شيءٌ
منها، وعَلّل ذلك بأن أصلها البناءُ، ولم يُوجد دليلٌ يُخرِجُها عن أصلها، فوجب إبقاؤُها على ما كانت عليه، وقال:"بقيت الحروف كلُّها على أصولها مبنيّةً؛ لأنها لم يعرض لها ما يُخرجُها عن أصولها". انتهى.
فقد استدلّ الزجاجي باستصحاب الأصل دون أن يسميه، وأما ابنُ جني فقد أفرد في كتابه (الخصائص) بابًا عنوانه: بابٌ في إقرار الألفاظ على أوضاعها الأُوَل ما لم يدْعُ داعٍ إلى الترك والتحول. ومعنى ما ذكره ابنُ جني في هذا الباب: أن اللفظ يبقى على ما يستحقه ولا ينتقل عنه إلا بدليل. وضرب ابنُ جني مثلًا بحرفِ العطفِ أو، فإنه في الأصلِ موضوعٌ للدلالةِ على أحد الشيئين شَكًّا أو إبْهَامًا، تخييرًا أو إباحةً، ولا يجوز أن تدل أو على معنى آخرَ إلا بدليل، فلا يجوز أن تكون بمعنى بل كما زعم الفرَّاءُ، ولا بمعنى الواو، كما زعم قُطْرُب، وقد ردّ ابنُ جني زَعْمَهُما، وبيّن أنَّ أو على بابها في قوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147)، فقال:"فأما قول الله سبحانه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} فلا يكون فيه أو على مذهبِ الفرَّاءِ بمعنى بل، ولا على مذهب قُطرب في أنها بمعنى الواو، لكنها عندنا على بابِها في كونها شَكًّا؛ وذلك أن هذا كلامٌ خرَجَ حكايةً من الله عز وجل لقول المخلوقين، وتأويلُه عند أهل النظر: وأرسلناه إلى جَمْع لو رأيتموه لقلتم أنتم فيهم: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون". انتهى.
ومن الأمثلة التي ذكرها الأنباريّ على استصحاب الحال مثالٌ نقله عنه السيوطي في (الاقتراح) وهو حكمُ الاسم والفعل من حيث الإعراب والبناء، فإن الأصلَ في الاسم أن يكون معربًا؛ لأن الأسمَاء تعتوِرُها المعاني؛ فتكونُ فاعلةً ومفعولةً، ومضافةً ومضافًا إليها، ولم تكنْ في صورها وأبنيتِها أدلَّةٌ على هذه
المعاني، فجُعِلَ الإعرابُ دليلًا على هذه المعاني، فتََبيّن من ذلك أن العرب يُفرِّقون بالإعراب -أي: يميزون بالإعراب- بين المعاني المختلفة، كما تَبيّن أن الإعراب أصلٌ في الأسماء. ولما كان الإعرابُ أصلًا في الأسماء لم يجز أن يُبنَى شيءٌ من الأسماء حتى يُوجد ما يُوجب البناء. وقد ذكر أبو البركات الأنباري ما يُوجب البناء في بعض الأسماء؛ فقال:"وما يوجب البناء في الأسماء هو شَبَه الحرف، أو تضمُّن معنى الحرف، فشَبَه الحرف في نحو: الذي، وتضمن معنى الحرف في نحو: كيف".
ومعنى ما ذكره الأنباري أن هناك أمرين يُوجبان بناءَ بعضِ الأسماء؛ أحدهما: أن يُشبه الاسمُ الحرفَ. والآخر: أن يتضمن الاسمُ معنى الحرف. فمثال الأول: الذي فإنه مبنيٌّ؛ لأنه أشبهَ الحرفَ في الافتقارِ اللازمِ؛ أي: في كونه مفتقرًا إلى ما يفسر معناه ويبينه، فكما أن الحرف يفتقر إلى ما بعده، فكذلك الأسماء الموصولة وُضِعت على الافتقار في فَهْم معانيها إلى صِلاتها، فلا يُؤتَى بها دون أن يُؤْتى بما يبيّنها، كما أن الحروف كذلك.
ومثال الثاني: كيف، فقد ذكر الأنباريُّ أن علة بنائه هي أنه تضمن معنى الحرف، ويُطلق المتأخرون من النحاةِ على هذا التضمنِ اسمَ الشبهِ المعنويِّ، ومعناه: أن يتضمن الاسمُ معنًى من معاني الحروف، فقد يشبه الاسم حرفًا موجودًا، وقد يشبه حرفًا غيرَ موجودٍ، فمثال ما أشبه حرفًا موجودًا: كيف فإنها تُستعمل للاستفهام، وهي تُشبه حرفًا موجودًا وهو الهمزة. ومثال ما أشبه حرفًا غيرَ موجودٍ: هنا فإنها مبنية؛ لأنها تدل على الإشارةِ، والإشارةُ معنًى من المعاني، وحقها أن يُوضع لها حرفٌ يدل عليها، فلم يوضَعْ، فبُنيت أسماءُ الإشارة لشبهها في المعنى حرفًا مقدرًا.
ومما سبق يمكن القول: بأن سبب بناء بعض الأسماء ينحصرُ في أمرٍ واحدٍ، وهو شبه الاسم بالحرف؛ وأن ما ذكره الأنباري من تضمن الاسم معنى حرف هو نوعٌ من أنواع الشبه. وبعد أن انتهينا من بيان استصحاب الأصل في إعراب الأسماء، نعود إلى كلام الأنباريّ في استصحاب الأصل في الأفعال، وهو البناء، فنقول: إن الأصل في الفعل أن يكون مبنيًّا؛ لعدم اختلاف المعاني الدالِّ عليها، وما أُعرِبَ من الأفعال فإنما أُعرِب لعلةٍ تُوجب إعرابَه، وقد ذكر أبو البركات الأنباريُّ ما يُوجب الإعرابَ في بعض الأفعال؛ فقال:"وما يُوجب الإعرابَ من الأفعال فهو مضارعةُ الاسمِ في نحو: يذهب، ويكتب، ويركب، وما أشبه ذلك". انتهى. ومعنى ما ذكره الأنباريُّ: أن الفعل المضارع وحدَهُ هو الذي يُعرب، وغيرُه من الأفعال يظل على أصله من البناء، وإنما أُعرب المضارع؛ لأنه أشبه الاسمَ، ويَحسنُ بنا أن نذكر الأوجهَ التي أشبه فيها الفعل المضارعُ الاسمَ، فاستحق الإعرابَ لذلك، فنقول: إن الفعل المضارعَ قد أشبه الاسمَ في عدة أوجه:
الوجه الأول: الإبهام والشيوع، ثم التخصيص بالقرينة، فالفعل المضارع فيه شيوعٌ، ثم يدخل عليه حرفٌ يزيل شيوعَه ويخلّصه لشيء واحد، تقول: زيد يفعل، فيصلح أن يكون للحال والاستقبال، فإذا قلت: يفعل الآن، أو سيفعل، أو سوف يفعل، فقد قرنته بما يزيل إبهامه، ويخلّصه لأحد الوجهين -وهو الحالُ- فلا يصلحُ للاستقبالِ، أو الاستقبال فلا يصلح للحال، وهو بذلك بمنزلةِ الأسماءِ الشائعة كرجل وفرس؛ لأنك تقول: جاءني رجل، فلا يَختص بواحدٍ من النوع، ثم تُدْخِلُ عليه حرفًا يخصه بواحد معين، تقول: جاءني الرجل الذي تعْلم، فيصير بحيث تضع اليد عليه، فقد تقرر المشابهةُ بين الاسم وهذا النوع من الفعل، من حيث إنك أزلتَ الشِّياعَ في كل واحد منها بحرف أدخلتَه على أوله.
والوجه الثاني: دخول لام الابتداء على الفعل المضارع، كما تدخل على اسم الفاعل، تقول: إن زيدًا ليقاتلُ، كما تقول: إن زيدًا لمقاتلٌ. قال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (النحل: 124). والوجه الثالث: أن الفعل المضارع تُوصَف به النكراتُ، كقولك: مررت برجلٍ يقوم، كما يكون اسمُ الفاعل صفةً للنكراتِ، تقول: مررت برجل قائمٍ. والوجه الرابع: أن الفعل المضارعَ يُشبه اسمَ الفاعل ويساويه في مطلق حركاته وسكونه، مثل: ضارب ويضرب، ومُكبّر ويُكبِّر، وينطلق، ومنطلِق، ويستخرج، ومستخرِج، ونحو ذلك. نقول: إن الاسم يُستَصْحبُ حالُه وهو الإعرابُ، فلا يقال ببنائه حتى يُوجد الدليلُ على البناءِ، وهو مشابهةُ الحرفِ، والفعلُ يُستَصْحبُ حاله، وهو البناء، فلا يُقال بإعرابه حتى يُوجد الدليل على الإعراب وهو مشابهة الاسم.
وقد نقل السيوطي -أيضًا- مسألتين في استصحاب الحال عن كتاب (الإنصاف) للأنباري؛ ودعاه إلى ذلك أمران؛ أحدهما: الرغبةُ في الوفاء بما ذكره في مقدمة (الاقتراح)؛ إذ قال: "وضممتُ إليه من كتابه (الإنصافَ في مباحث الخلاف) جملةً". والآخر: كثرة مسائل الخلاف التي استدل فيها الأنباري بالاستصحاب في كتابه. كما نقل السيوطي مسألةً عن ابن مالك في (التسهيل)، ومسألةً عن الأندلسي في (شرح المفصل). فهذه أربع مسائل نشير إليها مبينين الاستدلال فيها باستصحاب الحال، وهي:
المسألة الأولى: القولُ بأن كم مفردةٌ لا مركبةٌ، وهو رأي البصريين، وخالفهم الكوفيون؛ فذهبوا إلى أنها مركبة، واحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك؛ لأنّ الأصلَ في كم: ما زيدت عليها الكاف؛ لأنّ العربَ قد تصل الحرف في أوله
نحو: هذا، وهذاكَ، وفي آخره نحو: إمَّا، فكذلك ها هنا: زادوا الكافَ على ما فصارتَا جميعًا كلمةً واحدةً، إلا أنه لمّا كثرت في كلامهم وجرت على ألسنتهم، حُذفت الألفُ من آخرِها وسُكّنتْ ميمُها. وأمّا البصريون فحجتهم في ذلك كما يقول الأنباري في (الإنصاف في مسائل الخلاف):"إن الأصلَ هو الإفرادُ، وإنما التركيب فرعٌ، ومن تمسك بالأصل خرَجَ عن عهدة المطالبة بدليل، ومن عدَلَ عن الأصل افتقرَ إلى إقامةِ الدليلِ؛ لعدولِه عن الأصل، واستصحابُ الحالِ أحدُ الأدلة المعتبرة". انتهى. فقد استدلّ البصريون على إفراد كم باستصحاب الحال.
والمسألة الثانية: إعمال حرف القسم محذوفًا بعِوَضٍ، فقد ذهب الكوفيون: إلى أنه يجوزُ الخفضُ في القسَم بإضمارِ حرفِ الخفض من غير عوضٍ، وذهب البصريون: إلى أنه لا يجوز إعمالُ حرفِ الجر محذوفًا إلا بِعِوَضٍ، كألف الاستفهام في نحو: آللهِ ما فعلتَ كذا؟ أو هاء التنبيه، نحو: ها اللهِ، وحجتهم في ذلك -كما قال الأنباري في (الإنصاف) - أن الأصل في حروف الجر ألا تعمل مع الحذفِ، وإنما تعملُ معه في بعض المواضعِ إذا كان لها عِوض، فإن لم يوجد بقيت على أصلها، والتمسكُ بالأصل تمسكٌ باستصحابِ الحال.
والمسألة الثالثة: دلالة كان على الحدث والزمن، وهذه المسألة منقولةٌ عن ابن مالك في كتابه (تسهيل الفوائد)؛ إذ كان ابنُ مالك من الذين يستدلون باستصحاب الحال، وقد استدل بهذا الدليل في هذه المسألة في أثناء ردِّه على مَن زعَمَ أن كان تدل على الزمن ولا تدل على الحدث، فقال في (التسهيل) في باب: الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر: "وتُسمَّى نواقصَ؛ لعدم اكتفائها بالمرفوع، لا لأنها تدلّ على زمنٍ دون حدَثٍ، فالأصحُّ دلالتُها عليهما إلا ليس". انتهى. وقد ذهب إلى عدم دلالتها على الحدَث جماعةٌ من العلماء، منهم ابنُ جني وابنُ
برهان وعبد القاهر الجرجاني، فقد ذهبوا إلى أن كان وأخواتِها تدل على زمن وقوع الحدثِ، ولا تدل على الحدث. ورد ابنُ مالكٍ رحمه الله في شرح (التسهيل) دعواهم من عشرة أوجه، كان أولَها وثانيَها: أنّ هؤلاء النحاةَ جميعًا معترفون بأن كان وأخواتِها أفعالٌ، ومن المعلوم أن الفعلَ يدل على الحدث والزمن، فإذا كانت كان وأخواتُها أفعالًا، فإنها تدل لا محالةَ على الحدث والزمن؛ إبقاءً للأصل، وهو دلالةُ الفعل عليهما.
والمسألة الرابعة: موضع الضمير من لولاكَ، ولولايَ. فقد ذهب البصريون: إلى أنّ الكاف والياءَ في موضع جرٍّ بـ: لولا، وذهب الكوفيون والأخفش إلى أن الضمير المتصل بـ: لولاك ونحوه مرفوعٌ؛ وحجتهم في ذلك أنه لو وُضع في موضع هذا الضمير اسمٌ ظاهر لكان مرفوعًا، نحو: واللهِ لولا اللهُ ما اهتدينا، ونحو ذلك. فلما كان الأمر كذلك وجب أن يكون الضميرُ في موضع رفع؛ لاستصحاب الأصل. يقول الأندلسي في (شرح المفصل):"استدل الكوفيون على أن الضمير في لولاك ونحوه مرفوع بأن قالوا: أجمعنا على أن الظاهر الذي قام هذا الضمير مقامَه مرفوعٌ، فوجب أن يكون كذلك في هذا الضميرِ بالقياسِ عليه والاستصحاب". انتهى. ومن أجل إتمام الفائدة نذكر -هنا- مسألتين من المسائل التي اعتمد فيها الكوفيون في الاستدلال على استصحاب الحال:
أمّا المسألة الأولى منهما: فقد أوردها أبو البركات الأنباريُّ في (الإنصاف) وهي المسألة الخامسة والثمانون، وعنوانُها: عامِلُ الرفع في الاسم المرفوع بعد إنِ الشرطية، وقد ذهب الكوفيون فيها إلى أنه إذا تقدّم الاسمُ المرفوعُ بعد إنِ الشرطية نحو قولك: إنْ زيدٌ أتانِي آتِهِ، فإنه يرتفع بما عاد إليه من الفعل من غير
تقديرِ فعلٍ. وذهب البصريون إلى أنه يرتفع بتقدير فعلٍ، والتقدير فيه في المثال السابق: إنْ أتاني زيدٌ أتاني، والفعلُ المظهَرُ تفسيرٌ لذلك المقدَّر. وحكي عن الأخفش أنه يرتفع بالابتداء.
واحتجّ الكوفيون بقولهم: إنما جوَّزْنا تقديمَ المرفوع مع إنْ خاصةً وعملَهَا في فعل الشرط مع الفصل؛ لأنها الأصلُ في باب الجزاء دون غيرها من الأسماء والظروف التي يجازَى بها؛ لتضمنها معناها، والأصلُ يتصرَّف ما لا يتصرّف الفرع؛ فلقوتها جاز تقديمُ المرفوعِ معها، وقلنا: إنه يرتفع بالعائد؛ لأنّ المكنيَّ المرفوعَ في الفعل هو الاسمُ الأولُ؛ فينبغي أن يكون مرفوعًا به، كما قالوا: جاءني الظريفُ زيدٌ، وإذا كان مرفوعًا به لم يفتقر إلى تقدير فعل.
وأمّا المسألة الثانية: فهي المسألة الثانية بعد المائة في كتاب (الإنصاف)، وعنوانها: أيٌّ الموصولةُ معربةٌ دائمًا أو مبنيةٌ أحيانًا؟. وقد ذهب الكوفيون فيها إلى أنّ أيَّهم إذا كان بمعنى الذي وحُذف العائدُ من الصلة يكون معربًا، نحو قولهم: لأكرمَنَّ أيَّهم أفضلُ، وذهب البصريون إلى أنه يكون مبنيًّا على الضم. وقد احتج البصريون بأن قالوا: إنما قلنا: إنها مبنية ها هنا على الضم؛ لأنّ القياس يقتضي أن تكون مبنية في كل حال؛ لوقوعها موقعَ حرفِ الجزاء والاستفهام والاسم الموصول كما بُنيتْ: مَن، وما لذلك في كل حال. واعتمد الكوفيون في الاستدلال على ما ذهبوا إليه باستصحاب الحال، وقالوا في معرض ردّهم على البصريين: والذي يدل على فساد قول مَن ذهب إلى أنه مبنيٌّ على الضم، أنّ المفردَ من المبنيات إذا أُضيف أُعربَ، نحو: قبْلُ وبعْدُ، فصارت الإضافةُ توجِب إعرابَ الاسم، وأيٌّ إذا أُفردت أُعربتْ، فلو قلنا: إنها إذا أضيفت بُنيت، لكان هذا نقْضًا للأصول، وذلك محالٌ.
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.