الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موضع نصب على نزع الخافض، وسيبويه أجاز هذا، كما أجاز أن يكون في موضع جر معللًا ذلك بأن هذا الموضع كثر استعماله، فجاز فيه حذف الجار قياسًا على حذف رُب، واعتمادًا على نظائره من نحو قولهم: لاه أبوك، والأصل لله أبوك. وقد نبه سيبويه على أن هذا الرأي الأول إنما هو لشيخه الخليل.
العلة النحوية في القرن الثالث الهجري
مع بداية القرن الثالث الهجري ظهرت عند بعض النحويين فكرة تخصيص العلة النحوية بمؤلفات خاصة بها، مقصورة عليها، فألف تلميذ سيبويه أبو علي محمد بن المستنير الذي أطلق عليه شيخه سيبويه لقب قطرب، والمتوفى سنة ست ومائتين من الهجرة، ألف كتاب (العلل في النحو) كما ألف أبو عثمان المازني المتوفى سنة تسع وأربعين ومائتين من الهجرة على الراجح، ألف في علل النحو أيضًا كتابًا، ثم ظهر من وجّه عناية فائقة بالتعليل، وكان من أعمدة المدرسة البصرية، وهو محمد بن يزيد المعروف بالمبرد المتوفى سنة خمس وثمانين ومائتين.
وقال عنه ابن جني: "يُعدُّ جيلًا في العلم، وإليه أفضت مقالات أصحابنا أي: البصريين، وهو الذي نقلها، وقررها، وأجرى الفروع، والعلل، والمقاييس عليها" انتهى. وقال عنه الأزهري في مقدمة (تهذيب اللغة): "كان أعلم الناس بمذاهب البصريين في النحو ومقاييسه"، وقال عنه صاحب (المدارس النحوية): وكان يحتكم دائمًا إلى القياس ولكنه لم يكن يقدمه على السماع عن العرب، بحيث يرفض ما ورد على ألسنتهم، أو قل، أو كثر على ألسنتهم؛ فقد كان يرد ما يخالف الكثرة الكثيرة الدائرة في أفواههم، ولكن حين لا توجد هذه الكثرة كان يُفسح للقياس، وكذلك كان يفسح له حين يشيع استعمال بين العرب، وليس
معنى ذلك أنه كان يقيس على الشاذِّ والنادر؛ إنما كان يقيس على ما سمع كثيرًا قائلًا: إذا جعلت النوادر والشواذ غرضك، واعتمدت عليها في مقاييسك كثرت زلاتك"، انتهى. وإليك طرفًا من تعليلاته التي حفل بها كتابه (المقتضب):
أولًا: في أول الجزء الثاني من (المقتضب): هذا باب إعراب الأفعال المضارعة، وكيف صار الإعراب فيها دون سائر الأفعال، يعلل لإعراب الفعل المضارع دون سائر الأفعال، فيذكر أن الأفعال إنما دخلها الإعراب لمضارعتها الأسماء، ولولا ذلك لم يجب أن يُعرب منها شيء، وذلك أن الأسماء هي المعربة، وإنما دار على الأسماء من الأفعال ما دخلت عليه زائدة من الزوائد الأربع، يريد ما بُدئ بحرف من أحرف المضارعة الأربعة، ويصلح لوقتين يعني: للحال وللاستقبال، ويعلل للمضارعة بقوله: "وإنما قيل لها مضارعة، لأنها تقع مواقع الأسماء في المعنى
…
" إلى آخره.
ثانيًا: في باب إضافة العدد واختلاف النحويين فيه، يبطل مذهب القائلين بتعريف العدد بإدخال الألف واللام على غير ما ذهب إليه البصريون، سواء أكان العدد مضافًا أم مركبًا، وهو أحد عشر وتسعة عشر وما بينهما، أم لفظًا من ألفاظ العقود. قال: "اعلم أن قومًا يقولون: أخذت الثلاثة الدراهم يا فتى، وأخذت الخمسة عشرة درهم، وبعضهم يقول: أخذت الخمسة العشرة درهم، وأخذت العشرين الدرهم التي تعرف. وهذا كله خطأ فاحش، وعلة من يقول هذا الاعتلال بالرواية، يريد بالنقل عن العرب، لا أنه يصيب له في قياس العربية نظيرًا. وإنما يبطل هذا القول أن الرواية عن العرب الفصحاء خلافه، فرواية برواية، والقياس حاكم بعدُ، أنه لا يضاف ما فيه الألف واللام من غير الأسماء المشتقة من الأفعال، يريد أن ألا تدخل على المضاف في غير الإضافة غير المحضة،
وفي المواضع التي نبَّه عليها النحاة قال: لا يجوز أن تقول: جاءني الغلام زيد؛ لأن الغلام معرف بالإضافة، وكذلك لا تقول: هذه الدار عبد الله ولا أخذت الثوب زيد.
وأما قولهم: الخمسة العشر فيستحيل من غير هذا الوجه، يريد لعلة أخرى، ويبين هذه العلة بقوله: لأن خمسة عشر بمنزلة حضرموت، وبعلبك، وقالقلا، وعيدسبا، وما أشبه ذلك من الاسمين اللذين يجعلان اسمًا واحدًا، فإذا كان شيء من ذلك، فإن تعريفه أن يجعل الألف واللام في أوله. وأما العشرون الدرهم فيستحيل من وجه ثالث
…
" إلى آخره.
والمثال الثالث: في باب ما يُعرب من الأسماء وما يبنى يقول: "اعلم أن حق الأسماء أن تُعرب جُمع وتُصرف، فما امتنع منها من الصرف فلمضارعته الأفعال؛ لأن الصرف إنما هو تنوين، والأفعال لا تنوين فيها ولا خفض، فمن ثم لا يُخفض ما لا ينصرف إلا أن تضيفه أو تدخل عليه ألفًا ولامًا، فتذهب بذلك عنه شبه الأفعال، فترُدَّه إلى أصله؛ لأن الذي كان يوجب فيه ترك الصرف قد زال. وكل ما لا يُعرب من الأسماء فمضارع به الحروف، لأنه لا إعراب فيها" انتهى.
وكان المبرد صاحب شخصية علمية مستقلة، فرأيناه يبدي الرأي، ويصدر الحكم، ويثبت التعليل وإن خالف إمام النحاة سيبويه، ومن ذلك أن سيبويه ذكر في (الكتاب) أن الخليل رحمه الله قال: "اللهم نداء، والميم ها هنا بدل من يا، فهي ها هنا فيما زعم الخليل بمنزلة يا في أولها، إلا أن الميم ها هنا في الكلمة كما أن نون المسلمين في الكلمة بُنيت عليها، فالميم في هذا الاسم حرفان أولهما مجزوم أي: ساكن، والهاء مرتفعة؛ لأنه وقع عليها الإعراب، وإذا ألحقت الميم -يعني: بأن قلت: اللهم- لم تصف الاسم من قِبل أنه صار مع الميم عندهم بمنزلة
صوت كقولك -يعني لمن جُهل اسمه: يا هناه، يريد أن الميم صوت ليس باسم ولا فعل ولا حرف يدور في المواقع، كما هو الشأن في الحروف، وإنما هو صوت اتصل بالآخر، فالأصوات لا توصف. وأما قوله عز وجل:{اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الزمر: 46) فعلى يا" انتهى.
وهكذا رأى سيبويه أن لفظ {فَاطِرَ} في الآية الكريمة منادى بحرف نداء محذوف، ولا يجوز أن يكون وصفًا للفظ الجلالة على المحل، وخالف في ذلك المبرد، فقال في (المقتضب) في باب الحروف التي تنبه بها المدعو:"ولا يجوز عنده -أي: عند سيبويه- وصفه، ولا أراه كما قال: لأنها -أي: الميم المشددة- إذا كانت بدلًا من يا، فكأنك قلت: يا الله، ثم تصفه كما تصفه في هذا الموضع فمن ذلك قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} وكان سيبويه يزعم أنه نداء آخر، كأنه قال: يا فاطر السموات والأرض" انتهى.
ومن ذلك أيضًا في (الكتاب) قال سيبويه: "وتقول: هذا رجل وامرأته منطلقان، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان؛ لأنهما ارتفعا من وجه واحد، وهما اسمان بُنيا على مبتدأين، وانطلق عبد الله ومضى أخوك الصالحان؛ لأنهما ارتفعا بفعلين، وذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الحليمان" انتهى.
وخالفه المبرد فقال في (المقتضب) في باب اشتراك المعرفة والنكرة: "وكان سيبويه يجيز جاء عبد الله وذهب زيد العاقلان على النعت؛ لأنهما ارتفعا بالفعل، فيقول: رفعهما من جهة واحدة، وكذلك هذا زيد وذاك عبد الله العاقلان؛ لأنهما خبر ابتداء، وليس القول عندي كما قال؛ لأن النعت إنما يرتفع بما يرتفع به المنعوت، فإذا قلت: جاء زيد وذهب عمرو العاقلان؛ لم يجز أن يرتفع بفعلين، فإن رفعتهما بجاء وحدها، فهو محال؛ لأن عبد الله إنما يرتفع بذهب، وكذلك لو رفعتهما بذهب لم يكن لزيد فيها نصيب".