الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر علوم المنطق والكلام والشريعة في العلة النحوية
في كتاب (النحو العربي) قال الدكتور مازن المبارك: "وأما العلة في القرن الرابع فلا بد قبل الخوض فيها في الحديث عنها من وقفة قصيرة نتناول الحديث فيها عن المنطق والفقه والكلام، وصلتها بالنحو العربي، وذلك لأن العلة في القرن الرابع وما بعده كانت خاضعة لتأثير تلك العلوم، منطبعة بكثير من خصائصها"، انتهى. واحتذاء بهذا المنهج العلمي السليم وسيرًا على دربه، نوجز أثر العلوم المذكورة في النحو العربي بعامة، وفي التعليل النحوي بخاصة فنقول: قال الزجاج: "لما قدم المبرد بغداد جئت لأناظره، وكنت أقرأ على أبي العباس، فعزمت على إعناته أي: إيقاعه في شدة، فلما فاتحته ألجمني الحجة بالحجة، وطالبني بالعلة، وألزمني إلزامات لم أهتدِ إليها".
يعلق الدكتور مازن المبارك على حديث الزجاج فيقول: "وهكذا إذن لم يبلغ القرن الثالث نهايته حتى كانت علل النحو موضوعا ذا قيمة، ترمقه أنظار النحاة، ويكتبون فيه، ويتخذون منه وسيلة امتحان واختبار، وقد أجمع العلماء الذين تناولوا ظاهرة التعليل النحوي نشأة وتطورًا، على أن العلة النحوية باعتبارها جزءًا أساسيًّا من النحو، كانت في القرن الرابع وما بعده خاضعة لتأثير علوم المنطق والشريعة والكلام؛ لخضوع علم النحو لهذه العلوم وتأثره". فأما المنطق فهو العلم الذي يبحث في صحيح الفكر وفاسده، وهو الذي يضع القوانين التي تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ في الأحكام، فموضوعه هو الفكر الإنساني من ناحية خاصة هي ناحية صحته وفساده، ويتم له ذلك عن طريق البحث في القوانين العقلية العامة، التي يتبعها العقل الإنساني في تفكيره،
فما كان من التفكير موافقًا لهذه القوانين كان صحيحًا، وما كان مخالفًا لها كان فاسدًا.
وهو من علوم اليونان والراجح أن تأثير المنطق في النحو العربي وغيره من علوم اللسان، بدأ مع ظهور ترجمة بعض كتب اليونان التي شاع فيها المنطق، عندما دعا الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور -المتوفى سنة ثمان وخمسين بعد المائة من الهجرة- عبد الله بن المقفع المتوفى في الثانية والأربعين بعد المائة من الهجرة؛ ليترجم هذه الكتب، بيد أن هذا التأثير بدا في بعض المؤلفات النحوية في أواخر القرن الثاني، وفي القرن الثالث الهجريين كما تقدم، ولكنه كان ضئيلًا ومحدودًا وبعيدًا عن الإيغال، ولكنه ظهر واضحًا في القرن الرابع الهجري وما بعده، بحيث لا يوجد مجال لإنكار تأثيره في المباحث النحوية، وبخاصة العلة النحوية.
وقد ظهر تأثير المنطق في الدرس النحوي بصورة واضحة في استعمال النحويين للتعريفات، أو الحدود، والعوامل، والأقيسة، والعلل، وبعض المصطلحات المنطقية كالجنس، والفصل، والخاصة، والماهية، والماصدق، والعهد، والاستغراق، والعموم، والخصوص، المطلق، والعموم والخصوص الوجهي، والموضوع والمحمول، واللازم والملزوم، إلى آخر هذه المباحث المنطقية. وقد أدى نشوء الاعتزال واعتماد المعتزلة على العقل، وتقديمهم له، وإفساحهم المجال أمامه إلى آخر الحدود إلى تأثر النحويين البصريين خاصة؛ إذ نشأ بين ظهرانيهم في البصرة، فانصرف نحاة البصرة إلى تحكيم المقولات العقلية في دراساتهم النحوية من وجوه كثيرة، حتى وجدنا طابعها سائدًا في أساليب حجاجهم، وطرق جدالهم، وفي مناهجهم، وقواعدهم، ومصطلحاتهم.
وقد قال أبو البركات الأنباري في مقدمة كتابه (الإغراب في جدل الإعراب): "وبعد فإن جماعة من الأصحاب اقتضوني بعد تلخيص كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف) تلخيص كتاب في جدل الإعراب معرى عن الإسهاب، مجرد عن الإطناب؛ ليكون أول مصنف لهذه الصناعة في قوانين الجدل والآداب، ليسلكوا به عند المجادلة والمحاولة والمناظرة سبيل الحق والصواب، ويتأدبوا به عند المحاورة والمذاكرة عن المناكرة والمضاجرة في الخطاب، فأجبتهم على وفق طلبتهم؛ طلبًا للثواب، وفصلته اثني عشر فصلًا على غاية من الاختصار تقريبًا على الطلاب، فالله تعالى ينفع به إنه كريم وهاب" انتهى.
وعلى النحو الذي حدث في علم الكلام وعلم النحو اقتحم علم المنطق علوم الشريعة، فلم تكن هذه العلوم بمعزل عنه، أو بمنأى عن تأثيراته، فأصابها ما أصاب غيرها من هذه التأثيرات، ولما كان علماء الشريعة من المهتمين بعلم النحو باعتباره أداة الدرس الأولى في هذه العلوم؛ كان لا بد أن يتداخل تأثير هذه العلوم في علم النحو، وتأثير علم النحو في هذه العلوم، يقول أبو البركات الأنباري:"علوم الأدب ثمانية: اللغة، والنحو، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب وأنسابهم، وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما، علم الجدل في النحو، وعلم أصول النحو، فيعرف به القياس، وتركيبه، وأقسامه من قياس العلة، وقياس الشبه وقياس الطرد إلى غير ذلك على حد أصول الفقه، فإن بينهما من المناسبة ما لا خفاء به؛ لأن النحو معقول من منقول، كما أن الفقه معقول من منقول" انتهى.
ويقول السيوطي في (الاقتراح): "ورتبته على نحو ترتيب أصول الفقه في الأبواب والفصول والتراجم". ويقول الأستاذ سعيد الأفغاني: "فلما ذهبت
دولة المعتزلة غلبت دولة المحافظين في اللغة كما هو الشأن في كل علم، إذا عرفت ذلك كله أدركت الأثر البعيد الذي للعلوم الدينية في نشأة العلوم اللسانية، هذا في القياس خاصة، وقد علمت أن علماء العربية احتذوا طريق المحدِّثين من حيث العناية بالسند ورجاله، وتجريحهم، وتعديلهم، وطرق تحمل اللغة؛ فكانت لهم نصوصهم اللغوية كما كان لهؤلاء أو لأولئك نصوصهم الحديثية، ولهم طبقات الرواة كما لأولئك، ثم احتذوا المتكلمين في تطعيم نحوهم بالفلسفة والتعليل، ثم حاكوا الفقهاء أخيرًا في وضعهم أصولًا تشبه أصول الفقه، وتكلموا في الاجتهاد فيه، كما تكلم الفقهاء، وكان لهم طرازهم في بناء القواعد على السماع والقياس والإجماع، كما بنى الفقهاء استنباط أحكامهم على السماع والقياس والإجماع، وذلك تأثر واضح من آثار العلوم الدينية في علوم اللغة" انتهى.
هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.