الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم في معارضة مجرد الاحتمال للأصل والظاهر
لقد تناول ابن جني هذه القضية في موضعين من (الخصائص)، وعليهما عوَّل السيوطي في (الاقتراح)، بيد أنه أوردهما بعكس ترتيب ورودهما في (الخصائص): فبدأ بالموضع الثاني في (الخصائص)، وافتتح المسألة بقوله:"قال في (الخصائص): باب في الشيء يرد، فيوجب له القياس حكمًا، ويجوز أن يأتي السماع بضده، أُيقطع بظاهره، أم يتوقف إلى أن يرد السماع بجلية حاله؟ " انتهى. ومعنى قول ابن جني: "أيقطع بظاهره" أي: لا يُنظر إلى ما يحتمله اللفظ، وإنما ينظر إلى ظاهر حاله ومعنى قوله:"بجلية حاله" أي: بحاله الجلية الظاهرة، ومن الواضح أن ابن جني لم يذكر فيه رأيه ومذهبه صراحة، وإن كان تقديمه للقطع في اللفظ يدل على تقديمه إيَّاه في العمل. وقد كثرت الأمثلة التي تدل على أنه إذا تعارض الظاهر مع الاحتمال كان القول بالظاهر أولى، ومنها:
القول في نون عنبر وعنتر ونحوهما، فإن الظاهر هو القول بأن النون فيهما أصلية؛ لأنها وقعت في موضع الأصل وهو العين في فعلل نحو: جعفر، فلما وقعت النون في موضع الأصل كان الظاهر أنها أصلية، ويجوز أن يُحكم على النون بأنها زائدة، كما قيل بزيادتها في عَنْسَل، وهي الناقة السريعة، فإن النون فيها زائدة قطعًا، ويدل على زيادتها الاشتقاق من العسلان، وهو إسراع الذئب في مشيته، فحكموا بأن وزنه فنعل، مع عدم هذا الوزن في أبنيتهم، وإنما أوجبوا أن يكون عنسل على وزن فنعل؛ لأن الاشتقاق دال عليه، وهذا هو الأصح، وبه جزم سيبويه في كتابه فقال:"ومما جعلته زائدًا بثبت العنسل، لأنهم يريدون العَسُول" انتهى.
وقوله: "يريدون العسول" معناه: زيادة النون، وقيل: إنه من العَنْس، وهو الناقة الصلبة فنونه أصلية ولامه زائدة إلا أن الأصح قول سيبويه؛ لأن زيادة النون أكثر من زيادة اللام آخرًا. ومن الأمثلة التي ذكرها ابن جني في هذا الباب أيضًا ألف آأة حملها الخليل رحمه الله على أنها منقلبة عن الواوا؛ حملًا على الأكثر. وأوضح ابن جني أننا لسنا ندفع مع ذلك أن يرد شيء من السماع يقطع معه الخليل بكونها منقلبة عن ياء، على ما قدمنا من بُعد نحو ذلك لمخالفته الظاهر، ونعذره أي: ونتكلف العذر له، والآأة واحدة الآء، ففي (لسان العرب) مادة الهمزة مع الواو مع الهمزة:"آء على وزن عاع: شجر واحدته آأة، وفي حديث جرير: ((بين نخلة وضالة وسدرة وآأة))، الآأة بوزن العاعة، وتُجمع على آءٍ بوزن عاع، هو شجر معروف ليس في الكلام اسم وقعت فيه ألف بين همزتين إلا هذا، هذا قول كراع، وهو من مراتع النعام، وتصغيرها أُويئَة. قال ابن بري: والدليل على أن أصل هذه الألف التي بين الهمزتين واو قولهم في تصغير آأة: أويئة" انتهى.
ومن الأمثلة التي أوردها ابن جني في هذا الباب كذلك ما أشار إليه في قوله: "ويجيء على قياس ما نحن عليه أن تسمع نحو: بيت وشيخ، فظاهره لعمري أن يكون فَعْلًا مما عينه ياء، ثم لا يمنعنا هذا أن نجيز كونه فيعِلًا مما عينه واو كميت، وهين. ولكن إن وجدت في تصريفه نحو: شيوخ وأشياخ ومشيخة قطعت بكونه من باب بيع وكَيْل أي: حكمت بأنه من الثلاثي الذي على وزن فعل بفتح الأول وسكون الثاني كبيع وكيل، غير أن القول وظاهر العمل أن يكون من باب بيع؛ بل إذا كان سيبويه قد حمل سِيدًا على أنه من الياء تناولًا لظاهره مع توجه كونه فعلًا مما عينه واو كريح، وعيد؛ كان حمل نحو شيخ على أن يكون من الياء
لمجيء الفتحة قبله أولى وأحجى، فعلى نحو من هذا فليكن العمل فيما يرد من هذا" انتهى.
يدعم ابن جني ما ذكره من أن نحو: بيت وشيخ مما يُحمل على الظاهر، فيُجعل من باب فعل بفتح الفاء وسكون العين مع ورود احتمال كونه من باب ميت وهين أي: من باب فيعل؛ إذ أصلهما مَيْوِت وهيون، وأُبدلت الواو فيهما ياء وأدغمت الياء في الياء، ثم خُفِّف بحذف الياء الثانية وهي العين، لكن مع وجود بعض التصريفات الأخرى يُقطع بصواب حمله على ظاهر حاله، وهو كونه ثلاثيًّا يائي العين، ومما يؤكد هذا الحمل أن سيبويه قد حمل سِيدًا: وهو الذئب أو الأسد على أنه من قبيل يائي العين؛ تناولًا لظاهر حاله مع ورود توجه أن يكون مما عينه واوا قُلبت ياء لعلة تصريفية، بل إن احتمال ورود هذا في لفظ سيد أقوى من احتمال وروده في لفظ بيت وشيخ؛ لأن كسر الحرف الأول في سيد أعون على إحداث قلب الواو ياء عنه في بيت وشيخ، لفتح الأول فيهما.
أما الموضع الثاني الذي تناول فيه ابن جني هذه القضية في (الخصائص) فهو في باب عنوانه: باب في الحمل على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، وهذا الباب في (الخصائص) وارد قبل الباب السابق غير أن السيوطي أخَّر الحديث فيه؛ لكثرة ما تضمنه من تفصيلات، ومعنى ما ذكره ابن جني في هذا الباب أن الشيء يجب حمله على ظاهره، وإن كان ممكنًا من جهة العقل أن يكون باطنه بخلاف هذا الظاهر. وقد وصف ابن جني القول بذلك بأنه المذهب، وبأن العمل عليه، وبأن الوصية به فقال:"اعلم أن المذهب هو هذا الذي ذكرناه، والعمل عليه، والوصية به، فإذا شاهدت ظاهرًا يكون مثله أصلًا؛ أمضيت الحكم على ما شاهدته من حاله، وإن أمكن أن تكون الحال في باطنه بخلافه".
ثم ذكر مثالًا يدل على عناية علماء العربية بالظاهر، وهو حمل سيبويه كلمة سِيد على أن عينه ياء، فوضعه في (الكتاب) في باب تحقير كل اسم كان ثانيه ياء تثبت في التحقير، فالظاهر من حاله أن تكون عينه ياء، ولذلك قال سيبويه في تصغيره: سُيَيْد بضم أوله؛ لأن التصغير يضم أوائل الأسماء، فهو لازم له، كما أن الياء لازمة له، ثم ذكر سيبويه أن من العرب من يكسر أوله فيقول: سِيَيْد كراهية الياء بعد الضمة. ومن هذا المثال يتبين أن سيبويه قد حمل لفظ سيد على أن عينه ياء، لأنه هو الظاهر من حاله مع إمكان أن يكون عينه واوًا، ولذلك قال السيوطي:"حمل سيبويه سيدًا على أنه مما عينه ياء فقال في تحقيره: سييد عملًا بظاهره مع توجه كونه فعلًا مما عينه واو كريح وعيد" انتهى.
يريد السيوطي أن سيبويه حمل لفظ سيد على الظاهر من حاله، وهو أنه مما عينه ياء؛ لأن ظاهر حاله أخذه من السيادة، وإن احتمل أن يكون واوي العين من السواد، أو السُودد؛ فقلبت عينه ياء لسكونها إثر كسرة، كلفظ ريح الذي كان أصله واوي العين، وأصله رِوْح بدليل جمعه على أرواح؛ فقلبت عينه ياء لسكونها إثر كسرة. وكلفظ عيد الذي فُعل به ما فُعل بريح، وأصله واوي العين؛ لأنه من العَوْد، لأنه يعود كل سنة، وإنما يُجمع على أعواد، دفعًا لتوهم أنه جمع عُود، ومراعاة للفظ الواحد. وقال ابن يعيش في (شرح الملوكي): "فأما قولهم: عيد وأعياد فإنما أُلزم القلب لكثرة استعماله، وأما ريح فتكسيره على أرواح قال الشاعر:
تلفه الأرواح والسُّمِي
وربما قالوا: أرياحا ألزموه القلب، وهو قليل من قبيل الغلط" انتهى. وذكر ابن عصفور في (الممتع) أن عيدًا من عاد يعود، وأن الأصل فيه عِوْد؛ فقلبت الواو
ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، فقيل عيد. ولكن ينبغي إذا جمعنا أن نقول في جمعه: أعواد بالواو؛ لزوال موجب قلبها ياء، كما قالوا في جمع ريح: أرواح بالواو لزوال موجب قلبها ياء في ريح، وهو سكونها وانكسار ما قبلها قال:
تلفه الأرواح والسُّمِي
إلا أنهم لما أبدلوا الواو ياء في عيد أجروا هذه الياء مجرى الأصلية. انتهى. وكون السيد واويًّا هو الذي عليه أكثر أهل الاشتقاق، بل زعم بعضهم أنه لا وجود لمادة سيد بالتحتية بين المهملتين أصلًا، وقول السيوطي:"مع توجه كونه فعلًا" معناه: أن كلمة سيد على وزن فعل أي: على هذا الوزن بكسر الفاء وسكون العين، لا أنها فِعْل من الأفعال، وهذا القول من السيوطي يصحح سهوًا وقع فيه محقق كتاب (الاقتراح) رحمه الله تبعًا لمحقق كتاب سيبويه -رحم الله الجميع- إذ أثبتاه بلفظ سَيد والصحيح أنه سِيد بكسر السين.
ومن باب إتمام الفائدة وإكمال النفع نقرأ معًا ما قال ابن جني في (الخصائص) في استدلاله بحمل سيبويه لفظ سِيد على الظاهر مع إمكان أن يكون المراد غيره، يقول ابن جني:"ألا ترى أن سيبويه حمل سيدًا على أنه مما عينه ياء فقال في تحقيره: سُييد وسِييد، كديك ودييك، وفيل وفييل". ونلحظ أن محقق (الخصائص) -رحمه الله تعالى وأجزل ثوابه- قد ضبط السين في مصغر سيد بالضمة والكسرة معًا، وأشار في الهامش بأن هذا الضبط مطابق لأصح نسخ الأصل، وموافق للقاعدة الصرفية؛ إذ الوجهان جائزان لمكان الياء، وهو يُشير إلى قول سيبويه:"ومن العرب من يقول: شِيَيْخ وبييت، وسييد؛ كراهية الياء بعد الضمة" انتهى.
ونعود إلى حديث ابن جني حيث يقول معللًا تصغير سيبويه لفظ سيد على أنه مما عينه ياء بحمله على ظاهر حاله يقول: "وذلك أن عين الفعل لا يُنكر أن تكون ياء
يعني: وذلك لأن عين هذا اللفظ الذي على وزن فعل بكسر الأول وسكون الثاني لا يُنكر أن تكون في الاحتمال طبقًا للظاهر ياء قال: وقد وُجدت -أي: العين- في سيد ياء فهي في ظاهر أمرها إلى أن يرد ما يستنزل عن بادئ حالها يعني: إلى أن يأتي ما يدل على أنها على خلاف هذا الظاهر، قال: فإن قلت -أي: معترضًا على جعل هذه الكلمة من قبيل يائي العين: فإنا لا نعرف في الكلام تركيب السين مع الياء والدال، فهلَّا لما لم يجد ذلك حمل الكلمة على ما في الكلام مثله، وهو ما عينه من هذا اللفظ واو، وهو السواد والسودد، ونحو ذلك.
قيل -أي: في الرد: هذا يدلك على قوة الظاهر عندهم، وأنه إذا كان مما تحتمله القسمة، وتنتظمه القضية؛ حُكم به وصار أصلًا على بابه، وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره ألا يُحكم به حتى يوجد له نظير، وذلك أن النظير لعمري مما يؤنس به. فأما ألا تثبت به الأحكام فلا"، وقال أيضًا: "فإن قلت: فإن سيدًا مما يمكن أن يكون من باب ريح وديمة يعني: أن يكون واوي العين مثلهما، فهلا توقف أي: سيبويه عن الحكم بكون عينه ياء لأنه لا يأمن أن تكون واوًا قيل: هذا الذي تقوله إنما تدَّعي فيه ألا يؤمَن أن يكون من الواو، وأما الظاهر فهو ما تراه ولسنا ندع حاضرًا له وجه من القياس لغائب مُجَوَّز ليس عليه دليل، فإن قيل: كثرة عين الفعل واوًا تقود إلى الحكم بذلك قيل: إنما يحكم بذاك مع عدم الظاهر، فأما والظاهر معك فلا معدل عنه بك، لكن لعمري إن لم يكن معك ظاهر احتجت إلى التعديل والحكم بالأليق والحمل على الأكثر" انتهى.
ومن الأمثلة التي أوردها ابن جني في هذا الباب أيضًا حمل سيبويه لفظا عَيَّنٍ على ظاهر حاله مما عينه ياء، فأثبت به فيعلًا بفتح العين يقال: سقاء عين وعين
بفتح الياء المشددة وكسرها أي: قربة ماء رقت فلم تُمسك الماء، وقد كان يمكن أن يكون هذا اللفظ من قبيل واوي العين على وزن فوعل، أو فعول من غير أن ينكر أحد عليه ذلك. قال ابن جني:"وعلى نحو مما جئنا به في سيد حمل سيبويه عيَّنًا، فأثبت به فيعلًا مما عينه ياء، وقد كان يمكن أن يكون فوعلًا وفعولًا من لفظ العين ومعناها، ولو حكم بأحد هذين المثالين؛ لحمل على مألوف غير منكور، ألا ترى أن فوعلًا وفعولًا لا مانع لكل واحد منهما أن يكون في المعتل كما يكون في الصحيح، وأما فيعل بفتح العين مما عينه معتلة فعزيز، ثم لم يمنعه عزة ذلك أن يحكم به على عيَّن، وعدل عن أن يحمله على أحد المثالين اللذين كل واحد منهما لا مانع له من كونه في المعتل العين كونه في صحيحها، وهذا مما يبصرك بقوة الأخذ بالظاهر عندهم، وأنه مكين القدم راسيها في أنفسهم" انتهى. وابن جني يشير بذلك إلى استشهاد سيبويه في (الكتاب) بقول رؤبة:
ما بال عيني كالشعيب العين
والشَّعِيب العَيَّن القربة الخلق الممزقة البالية التي يسيل منها الماء لقدمها، ويذكر ابن جني في ختام هذا الباب أن قوة اعتقاد العرب في الحمل على الظاهر إنما تكون إذا لم يمنع من هذا الحمل مانع، فإن منع منه مانع فلا حمل عليه. ويمثل لذلك بقوله: "وأما حيوة والحيوان فيمنع من حمله على الظاهر يعني: على كونه يائي العين واوي اللام أنا لا نعرف في الكلام ما عينه ياء ولامه واو، فلا بد أن تكون الواو بدلا من ياء لضرب من الاتساع مع استثقال التضعيف في الياء، ولمعنى العلمية في حيوة، وإذا كانوا قد كرهوا تضعيف الياء مع الفصل حتى دعاهم ذلك إلى التغيير في حاحيت، وهاهيت، وعاعيت يعني: أن أصولها حيحيت، وهيهيت، وعيعيت، وهي أسماء أصوات لزجر الغنم ونحوها، وأبدلت الياء الأولى فيها ألفًا كراهة تضعيفها، كان إبدال اللام في الحيوان يختلف الحرفان أولى