الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غيره في أنفسها أقوى منه لإيثارها التخفيف" معناه: أن الأصل قد يُخالف في لسان العرب اختيارًا للتخفيف، واختصاصًا به، وإيثارًا له. والمثال الثالث: قال سيبويه: "سمعنا بعضهم يدعو: اللهم ضبعًا وذئبًا، فقلنا له: ما أردت؟ قال: أردت اللهم اجمع فيها ضبعًا وذئبًا، كلهم يفسر ما نوى". قال ابن جني:"فهذا تصريح منهم بما ندعيه عليهم، وننسبه لهم" انتهى.
أي: تصريح منهم بالعلة التي ذكرناها منسوبة إليهم، فضبعًا منصوب بفعل مضمر تقديره: اجمع أو اجعل، وقد ذكر سيبويه هذا المثال في باب ما جرى من الأمر والنهي على إضمار الفعل المستعمل إظهاره. ومن تمام الفائدة أن نذكر هنا عبارة سيبويه، فقد قال رحمه الله:"وهذه حجج سُمعت من العرب، وممن يُوثق به، يزعم أنه سمعها من العرب، من ذلك قول العربي في مثل من أمثالهم: اللهم ضبعًا وذئبًا، إذا كان يدعو بذلك على غنم رجل، وإذا سألتهم ما يعنون، قالوا: اللهم اجمع أو اجعل فيها ضبعًا وذئبًا، وكلهم يفسر ما ينوي" انتهى. فقوله: "يفسر ما ينوي"، أي: يعلل النصب في قوله: "ضبعًا"؛ إذ ذهب إلى أنه على إضمار فعل، ففسر ما قصد من العامل المحذوف، مع أنه لا دليل عليه في الكلام.
الإيماء
الإيماء في اللغة مصدر الفعل الرباعي أومأ بمعنى: أشار إشارة خفية، وقيل: إن أصله الإشارة بالشفة والحاجب، وأما عند الأصوليين فهو اقتران وصف ملفوظ بحكم، ولو مستنبطًا إلى آخر ما بسطوه. ومن سنن العرب أن تُشير إلى المعنى إشارة، وتومئ إيماء دون التصريح، والمراد به هنا: الدلالة على العلة من طريق الإشارة إليها، دون أن يكون في الكلام دلالة على المراد لا بالمنطوق، ولا بالمفهوم، ولا بالتعريض، ولا بالكناية. ويُعدُّ هذا المسلك مقابلًا لمسلك النص؛
إذ يكون في النص تصريح بالعلة؛ بحيث يعرفها من يسمع نص الأعرابي، وليس كذلك في الإيماء؛ إذ لا يفطن إليه إلا لبيب.
وقد ذكر السيوطي رحمه الله في كتاب (الاقتراح) مثالين فيهما إيماء إلى العلة وهما؛ المثال الأول: رُوي أن قومًا من العرب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من أنتم؟ فقالوا: نحن بنو غيان. فقال: بل أنتم بنو رشدان)) فكان الاسم مشتقًّا من الغي والغواية بفتح الغين فيهما، وهو الانهماك في الجهل، والإمعان في الضلال، ولم ينطق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاشتقاق، بل غير الاسم إلى رشدان من الرشد، وهو ضد الغي؛ فكان تغييره دليلًا على أن الألف والنون في غيان زائدتان، وليس في اللفظ تصريح، ولا كناية، ولا تعريض يدل على زيادتهما، بل إيماء وإشارة إلى زيادتهما. وتُفهم هذه الإشارة من اشتقاقه إيَّاه من الغي. وقد علق ابن جني على هذا المثال بقوله:"أشار إلى أن الألف والنون زائدتان، وإن كان لم يتفوَّه بذلك غير أن اشتقاقه إيَّاه من الغي بمنزلة قولنا نحن: إن الألف والنون فيه زائدتان". ومعنى ما ذكره ابن جني: أن الاشتقاق من الغي دلَّ بطريق الإيماء على زيادة الألف والنون.
والمثال الثاني: ما حكاه غير واحد أن الفرزدق حضر مجلس عبد الله بن أبي إسحاق، وكان عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم، وفرَّع النحو وقاسه، سُئل عنه يونس فقال:"هو والنحو سواء" فقال ابن أبي إسحاق للفرزدق: "كيف تنشد هذا البيت:
وعينان قال الله كونا فكانتا
…
فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
فقال الفرزدق: كذا أُنشد أي: كما أنشدته أنت كذلك أنشده أنا، أي: برفع فعولان، فقال ابن أبي إسحاق: ما كان عليك لو قلت: فعولين يعني: بالنصب
على أن الكلمة خبر كانتا؛ لأنها مثنى فعول كصبور، والمثنى يُنصب بالياء، فقال الفرزدق: لو شئت أن أسبح لسبحت، أو قال: لو شئت أن أسبِّح لسبَّحت أي: يجوز أن أسبح وهو مضارع سبح، كمنع، والمعنى عليه. لو أردت أن أخوض فيما لا يعني، وأسبح في لجة الحدس والتخمين والجهل بلا معرفة؛ لفعلت. ويجوز ضم الهمزة وشد الموحدة من التسبيح، والمعنى عليه أي: لسبحت الله تعجبًا من جهلك، فإن التسبيح يُذكر في مقامات التعجب كثيرًا. قال الفرزدق ذلك ونهض، فلم يعرف أحد في المجلس ما أراد"، أي: ما قصده من التخطئة، والتعجب من الجهل.
قال ابن جني: "أي: لو نصب لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما أن تفعلا ذلك، وإنما أراد أنهما تفعلان بالألباب ما تفعل الخمر، وقال: كان هنا تامَّة غير محتاجة إلى الخبر، فكأنه قال: وعينان قال الله: احدثا فحدثتا، أو اخرجا إلى الوجود فخرجتا" انتهى. فقد أنشد الفرزدق البيت برفع فعولان على الاستئناف وإضمار المبتدأ، والتقدير: هما فعولان بالألباب ما تفعل الخمر، والمعنى على هذا الإنشاد: أن كان في البيت تامة لا تحتاج إلى الخبر، فكأنه قال: احدثا فحدثتا، ثم استأنف قائلًا: هما تفعلان بالألباب ما تفعل الخمر، فدل الفرزدق بالإيماء على أن كان تامة، وليس في لفظه ما يدل على تمامها، لا بالمنطوق، ولا بالمفهوم، ولا بالتعريض، ولا بالكناية، ولو أنه أنشد البيت بالنصب لقال:
وعينان قال الله كونا فكانتا
…
فعولين بالألباب ما تفعل الخمر
وكان المراد أنه يُخبر بأن الله خلقهما، وأمرهما أن تفعلا ذلك، وقد تعجَّب الفرزدق من قول ابن أبي إسحاق:"ما كان عليك لو قلت: فعولين"، وقام منصرفًا؛ إظهارًا للإعراض عنه، لأنه لم يرد بإنشاد البيت أن تكون كان ناقصة،