الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم تعارض نقلين
إن التعارض بين نقلين هو المسألة الأولى من مسائل التعارض والترجيح في (الاقتراح) وقد استقى السيوطي مادة هذه المسألة من (لمع الأدلة) الفصل السابع والعشرين، والمراد به أن يدل دليل من السماع على حكم ويدل دليل آخر على خلافه. قال الأنباري:"اعلم، أنه إذا تعارض نقلان أُخِذَ بأرجحهما، والترجيح يكون في شيئين؛ أحدهما: الإسناد، والآخر: المتن. فأما الترجيح في الإسناد: فأن يكون رواة أحدهما أكثر من الآخر، أو أعلم، أو أحفظ"، وذكر مثالًا لذلك. ثم قال:"وأما الترجيح في المتن فأن يكون أحد النقلين على وفق القياس، والآخر على خلاف القياس"، وذكر مثالًا لذلك أيضًا.
ومعنى ما ذكره الأنباري ونقله السيوطي عنه: أنه قد يرد في كلام العرب دليل نقلي يدل على حكم من الأحكام النحوية، ثم يرد دليل آخر يقتضي خلافَ ما دل عليه الدليل الأول، وإذا وقع مثل ذلك أُخِذَ بأرجحهما؛ لأن الأرجحية من مرجحات الأدلة ومقوية لبعض النقول على بعض. وهناك سبيلان للترجيح بين هذين الدليلين المتعارضين؛ أحدهما: أن يكون الترجيح بالإسناد، والآخر: أن يكون الترجيح بالمتن، ومعنى الترجيح بالإسناد: أن يكون رواة أحد الدليلين أكثرَ أو أعلمَ أو أحفظَ من رواة الدليل الآخر، فيكون الدليل الذي كثر رواتُه أو سَلِموا من الطعن أولى بالقبول من الدليل الذي قَلَّ رواتُه أو لم يسلموا من الطعن فيهم. ومثال الدليلين المتعارضين اللذين رجَّحَ الإسناد أحدهما وضعف الآخر، قول الشاعر عَدي بن زيد العِبادي:
اسمع حديثًا كما يومًا تحدثه
…
عن ظهر غيب إذا ما سائل سأل
فقد روي قوله: "تحدثه" بروايتين: الرفع تحدثُه، والنصب: تحدثَه، فاستدل الكوفيون برواية النصب على أن كما تأتي بمعنى كيما ويكون المضارع بعدها منصوبًا، وذهب البصريون إلى أن كما لا تكون بمعنى كيما ولا يجوز نصب المضارع بعدها، وحجتهم في ذلك: أن رواية النصب في "تحدثه" لم يذكرها إلا المفضل بن سلمة بن عاصم أبو طالب الضبي النحوي اللغوي الكوفي، المتوفى نحو سنة تسعين بعد المائتين من الهجرة، فقد ذكر رواية النصب وحده، أي: هو الذي ذكر البيت برواية "تحدثَه" وله -أي: للمفضل هذا- اختيارات اختار المحققون خلافها، وقد أجمع الرواة من البصريين والكوفيين على رواية الرفع، فلما كان رواة الرفع أكثر وأعلم وأحفظَ كانت روايتهم راجحةً على رواية النصب، وبذلك يكون الإسناد هو الذي رجَّح أحدَ النقلين على الآخر. ومعنى الترجيح بالمتن: أن يكون أحد النقلين موافقًا للقياس ويكون النقل الآخر مخالفًا له، فيكون الدليل الذي جاء موافقًا للقياس أولى بالقبول وأحق، كما يكون أولى بالترجيح، ومثاله قول الشاعر طرفة بن العبد:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
قوله: "أيهذا الزاجري"، أي منادى بإسقاط حرف النداء، والتقدير: يا أيها، وها: للتنبيه، وقد ذكرت وصلة كما هو معروف، والإشارة نعت لأي، والزاجري: أي: الذي يزجرني ويمنعني ويكفني، وهو نعت لاسم الإشارة، والوغى: الحرب، وقوله:"هل أنت مخلد" معناه: هل تضمن لي البقاء والخلود إذا أحجمتُ عن القتال ومنازلة الأقران؟.
وقد روي قوله: "أحضر" بروايتين: الرفع "ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى"، وبالنصب:"ألا أيهذا الزاجري أحضرَ الوغى". واستدل الكوفيون برواية النصب
على أن الأصل أن أحضرَ فدل على جواز إعمال أنْ محذوفةً في غير مواضع حذفها المقررة في علم العربية، ومنع ذلك البصريون، إذ إِنَّ أَنْ لا يجوز إعمالها عندهم محذوفةً في غير مواضع حذفها، وردوا قول الكوفيين بقولهم: إن رواية الرفع جاءت موافقةً للقياس، ووجه موافقتها له -أي: للقياس- أن أنْ من عوامل الفعل المضارع وهي ضعيفة، فينبغي ألا تعمل من غير عوض، ويدل على ضعفها أن من العرب من يهملها مظهرةً، ويرفع ما بعدها؛ تشبيهًا لها بما المصدرية كما جاء في قراءة ابن محيصن -وهو أحد القراء الأربعة فوق العشرة- كما جاء قوله تعالى:"لِمَنْ أرادَ أنْ يُتمُّ الرضاعةَ"(البقرة: 233) برفع الفعل المضارع "يتم". ولما كانت أنْ ضعيفة عن العمل كان القياس ألا تعمل وهي محذوفة، وعلى القياس جاءت رواية الرفع في قول طرفة:"أحضرُ الوغى" ولذلك كانت رواية الرفع أولى وأرجح من رواية النصب في البيت المذكور.
ونلحظ على مثال الترجيح في المتن: أن السيوطي قد نقله من (لمع الأدلة) لأبي البركات الأنباري، وقد سبق إلى الترجيح بالمتن ابن جني في كتابه (الخصائص) إذ ذكر أن القياس يكون حَكَمًا بين النقلين المتعارضين، وذلك في مسألة تقديم التمييز على عامله المتصرف، فقد اختلف النحويون في حكم تقديم التمييز على عامله المتصرف، فذهب فريق من النحويين إلى جوازه وعلى رأس هذا الفريق الكسائي والمازني والمبرد وابن مالك؛ قياسًا على سائر الفضلات المنصوبة بفعل متصرف، ولصحة وروده في الكلام الفصيح بالنقل الصحيح، كما قال ابن مالك في شرح (التسهيل) وغيره. وجعله في نظم (الألفية) قليلًا، فقال:
وعامل التمييز قدِم مطلقًا
…
والفعل ذو التصريف نزرًا سُبِقَا
فأجاز هذا الفريق -أعني: الكسائي ومن معه- أن يقال -مثلًا: عَرَقًا تصببتُ، مستدلين بقول الشاعر:
أتهجر ليلَى بالفراق حبيبها
…
وما كان نفسًا بالفراق تطيبُ
فقد روي البيت بنصب "نفسًا" على التمييز، فتقدم التمييز "نفسًا" على عامله المتصرف "تطيب". ومنع فريق من النحويين أن يتقدم التمييز، وذكروا أن هذه الرواية تقابلها رواية أخرى وهي "وما كان نفسي بالفراق تطيب"، برفع "نفسي"؛ لأنها اسم كان، و"تطيب" خبرها، كأنه قال: وما كان نفسي طيبةً، فتَعَارَض نقلان، وقد منع سيبويه والجمهور تقديم التمييز على عامله المتصرف، وتبع ابن جني مذهب سيبويه والجمهور، ورجح روايةَ الرفع على رواية النصب، وكان القياس هو المرجح؛ لأن التمييز فاعل في المعنى، ولا يجوز تقديم الفاعل على الفعل، فكذلك التمييز. قال ابن جني رحمه الله: "ومما يَقْبُحُ تقديمه الاسم المميِز وإن كان ناصبه فعلًا متصرفًا، فلا نجيز: شحمًا تفقأتُ، ولا عَرَقًا تصببتُ، فأما ما أنشده أبو عثمان وتلاه فيه أبو العباس من قول المخبل:
أتهجر ليلى بالفراق حبيبها
…
وما كان نفسًا بالفراق تطيبُ
فتقابله برواية الزجاجي وإسماعيل بن نصر وأبي إسحاق أيضًا: وما كان نفسي بالفراق تطيب، فرواية برواية، والقياس من بعد حاكِم". وأوضح ابن جني أن التمييز في البيت المذكور في الأصل هو الفاعل في المعنى، فأصل الكلام: تصبب عرقي، وتفقأ شحمي، ثم حُوِّل الإسناد عن الفاعل الواقع مضافًا إلى ياء المتكلم إلى المضاف إليه، أي: إلى ياء المتكلم، فحولت إلى ضمير رفع؛ لوقوعها فاعلًا، فحصل في الإسناد إلى هذا الضمير إبهام، فجِيء بالمضاف الذي كان فاعلًا وجعل تمييزًا، ويقال عنه: إنه تمييز محول عن الفاعل، فكما لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل، فكذلك لا يجوز تقديم المميِز، إذ كان هو الفاعل في المعنى على الفعل.