الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستدلال بالأصول
إن السيوطي قد عوّل في هذا العنصر على كلام أبي البركات الأنباري في كتابه (لمع الأدلة)، وقد ذهب الأنباريُّ إلى أن الاستدلالَ بالأصول هو أحدُ أوجهِ الاستدلال التي تُلحَق بالقياس، ويُعَدُّ الاستدلال بالأصول من جملة الأدلة التي يلجأ إليها النحويُّ عند المحاجَّاة والجدل؛ إذ إن المراد به إبطالُ مذهبٍ أو رأي بالرجوع إلى الأصل الذي أصّله النحويون. ومن الأصول التي أصلها النحويون أن يكون الرفع مقَدّمًا على غيره من أنواعِ الإعرابِ، وبهذا الأصل رَدَّ الأنباريُّ مذهبَ القائلين بأن عامل الرفع في الفعل المضارع المرفوع هو تجرده من الناصب والجازم؛ لأن القول بالتجرد معناه أن الفعل كان متلبسًا بهما قبل تجرده منهما، وفي القول بذلك مخالفة للأصول؛ إذ إن الأصل تقدُّمُ الرفع على غيره.
قال الأنباري في (لمع الأدلة): "وأما الاستدلال بالأصول فمِثل أن يُسْتَدَلَّ على إبطال مذهبِ مَن ذهب إلى أن رفعَ المضارع إنما كان لسلامته من العوامل الناصبة والجازمة، بأن ما ذهبَ إليه يُؤدي إلى خلاف الأصول؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الرفع بعد النصب والجزم، وهذا خلاف الأصول؛ لأن الأصول تدل على أن الرفع قبل النصب؛ لأن الرفع صفة الفاعل، والنصب صفة المفعول، كما أن الفاعل قبل المفعول، فكذلك الرفع قبل النصب، وكذلك تدل الأصول على أن الرفع قبل الجزم؛ لأن الرفع في الأصل من صفات الأسماء، والجزم من صفات الأفعال، وكما أن رتبة الأسماء قبل رتبة الأفعال، فكذلك الرفع قبل الجزم". انتهى.
وفي كلام أبي البركات الأنباري إجمالٌ يَحتاج إلى تفصيل يكشفه ويبينه، وهو أن نقول: إن الأنباريَّ قد رد مذهبًا من المذاهب وأبطل قولًا من الأقوال بالرجوع إلى الأصول التي استقرت عند النحويين، فقد استقر عند النحويين أن الرفع مُقَدَّمٌ على غيره من أنواع الإعراب، فهو مقدَّم على النصب والجزم، فإذا كان الفعل
المضارعُ مرفوعًا فإنه لا يجوز عند الأنباري أن يُقال: إن رافعه هو تجرده من الناصب والجازم؛ لأن التعبير بالتجرد منهما يؤدِّي إلى سبقهما للرفع، ويؤدي إلى أن المضارع تجرد منهما بعد أن كان متلبسًا بهما، وهو خلاف الأصول؛ إذ إن الأصول شاهدةٌ بتقدم الرفع عليهما.
ويدل على تقدم الرفع على النصب أن الرفع حكمٌ ثابتٌ للفاعل، وهو عمدةٌ، كما أن النصبَ حكمٌ ثابتٌ للمفعول به، وهو فَضلةٌ، فكما أن الفاعلَ قبل المفعول مَنْزِلَة واعتبارا، فكذلك الرفع يكون قبل النصب مَنْزِلَةً واعتبارًا. ويدل على تقدم الرفع على الجزم أن الرفع في الأصل صفة من صفات الأسماء، والجزم من صفات الأفعال، والأسماء متقدمة في الرتبة على الأفعال، فكذلك الرفع متقدمٌ في الرتبة على الجزم.
وخلاصة ما سبق أن الأصلَ هو تقدم الرفع على النصب والجزم، فمن قال: إن المضارع مرفوعٌ بتجرده من الناصب والجازم فقد قدم النصبَ والجزمَ على الرفع، وبذلك يكون قد خالف أصلًا من أصول النحاة، فلا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ولا يُرتضَى مذهبه عند الأنباري. وهذا القولُ الذي رده الأنباريُّ واستدل على إبطاله بالأصول هو رأي حُذّاق الكوفيين، يقول الفَرّاءُ في (معاني القرآن) عند قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} (البقرة: 83): "رُفعت: {تَعْبُدُونَ} لأن دخول أنْ يصلح فيها، فلما حُذف الناصب رُفعت، وهو القول الذي يجري على ألسنة المعربين".
ونختم بقول أحد الباحثين المعاصرين: " والحق أن استدلال الأنباري يبدو عليه التكلف؛ إذ يُمكن الاعتراضُ عليه من عدة أوجه؛ فمن الممكن أن نقول: إن التعريَ أسبقُ من التقييد، فالتعري أولًا، ولما كان الرفع هو الأول كان ملازمًا للتعري، كما يمكن أن يُقال: إن الفعلَ المضارعَ رُفِعَ؛ لأنه لم يدخل عليه ناصبٌ فينصبَه، ولا جازمٌ فيجزمَه، دون أن نمَس أسبقية الرفع للنصب والجزم ".
هذا والله ولي التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.