الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستدلال بالعكس
إن الاستدلالَ بالعكس دليلٌ من أدلة الأصوليين، ويعبرون عنه بقياس العكس، ويعرِّفونه بأنه: عدم الحكم عند عدم العلة، وقد جعله السيوطي أولَ الأدلة غير الغالبة، فقال:"ومنها الاستدلال بالعكس، أي: جعْلُ عكس الحكم دليلًا"، وبهذا الدليل رُدّ على الكوفيين زعمُهم أن الخبر إذا كان ظرفا كان منصوبًا بالخلاف؛ ومعنى كلام الكوفيين أنه إذا قيل: زيدٌ أمامَك، وعمرو وراءَك، فالظرفان أمامَك ووراءَك منصوبان بالخلاف، وحجتهم في ذلك أن خبر المبتدأ هو المبتدأ في المعنى، فإذا قيل: زيدٌ قائمٌ، وعمرو جالسٌ، فزيدٌ مبتدأ، وقائمٌ خبره، فقائم هو زيد في المعنى، والقائم هو زيدٌ. وكذلك عمرو هو الجالس، والجالس هو عمرو. فيستحقّ الخبر أن يكون مرفوعًا. وإذا قيل: زيدٌ أمامَك، وعمرو وراءَك، لم يكن أمامك في المعنى هو زيد، ولا وراءك في المعنى هو عمرو، كما كان قائمٌ في المعنى هو زيد، فلما كان مخالفًا نُصب على الخلاف.
ومما سبق يتبين أن الكوفيين يرون أن عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا هو عاملٌ معنوي عبروا عنه باسم الخلاف، ومعناه هنا: المخالفة بين الخبر والمبتدأ، وأرادوا به أن الخبر ليس هو المبتدأ في المعنى، وإنما هو مخالفٌ له. وقد أفسدَ الأنباريُّ هذا القولَ مستدلًّا على فساده بالعكس؛ لأنه لو كان عامل النصب في الظرف هو الخلاف لكان من الواجب أن يكون المبتدأ أيضًا منصوبًا؛ لأن الخلاف مصدر الفعل خالف، وبِنْيَةُ هذا الفعل تدل على المشاركة بين اثنين يخالف كلٌّ منهما صاحبَه، كما هو شأن المفاعلة، نحو: خاصمَ، ولا يُتصور الخصامُ من واحد، وكذلك جادل، ولا يُتصور الجدال من واحد، فإذا كان الخبر مخالفًا
للمبتدأ، فمعناه أن المبتدأ أيضًا مخالفٌ للخبر، وإذا كان الخلاف يوجب نصب الظرف كما زعم الكوفيون، فالواجب أيضًا نصبُ المبتدأ، ولو وافقناهم على زعمهم، فنقول: زيدًا أمامَك، بالنصب، ولا قائلَ به، فبطل ما استدلّ به الكوفيون.
يقول الأنباري في (الإنصاف): "لو كان الموجبُ لنصب الظرف كونَه مخالفًا للمبتدأ لكان المبتدأ أيضًا يجب أن يكون منصوبًا؛ لأن المبتدأ مخالف للظرف كما أن الظرفَ مخالفٌ للمبتدأ؛ لأن الخلاف لا يُتصوّرُ أن يكون من واحدٍ، وإنما يكون من اثنين فصاعدًا، فينبغي أن يُقال: زيدًا أمامَك، وعمرًا وراءك، وما أشبه ذلك، فلما لم يجز ذلك دلّ على فساد ما ذهبوا إليه". انتهى. وقد نقل السيوطي في (الاقتراح) كلام الأنباري باختصارٍ غير مخلٍّ؛ لأن الغاية التي سعى إليها هي بيان الاستدلال بالعكس، وأنه لَمَّا لَمْ يكن المبتدأ منصوبًا مع قيام الخلاف به أيضًا دلّ عدمُ نصبه على أن الخلاف لا يكون موجِبًا للنصب في الظرف، وإلا فإن كونَ الخلاف عاملًا في أحدهما دون الآخر تَحكُّمٌ، وترجيحٌ بلا مرجح، فكان عكسُ الحكم دليلًا على نفيه.
رأي البصريين في عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا: ذهب جمهور البصريين إلى أن عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا هو فعلٌ مقدر، والتقدير: زيدٌ استقرَّ أمامَك، وعمرو استقرّ وراءَك، وذهب بعضهم إلى أنّ عامل النصب اسمُ فاعلٍ، والتقدير: زيدٌ مستقرٌّ أمامك، وعمرو مستقرٌّ وراءك، والقول بتقدير الفعل أولى من تقدير اسم الفاعل؛ لأن اسم الفاعل فرعٌ عن الفعل في العمل، والفعل أصلٌ في العمل، فلما وجب تقدير عاملٍ كان تقدير ما هو الأصل في العمل، وهو الفعل، أولى من تقدير ما هو الفرع فيه، وهو اسمُ الفاعل.