الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي والعشرون
(الترجيح بين مذهب البصريين ومذهب الكوفيين)
الاتفاق على أن البصريين أصح قياسًا وأن الكوفيين أوسع رواية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
لقد أجمعت كتب التاريخ والتراجم والطبقات على أن البصرة قد استأثرت بعلم النحو حينًا من الدهر، وأنها صاحبة الفضل في وضع أصول هذا العلم الجليل وأسسه، ومبادئه، وأنها هي التي تعهَّدت هذا العلم في نشأته الأولى؛ فالبصرة -كما قال صاحب (المدارس النحوية) رحمه الله هي واضعة النحو أي: متمثلة في أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة تسع وستين من الهجرة، وموطنه البصرة؛ إذ هو على الراجح الواضع الأول للنحو، وكان النحويون على اختلاف بلدانهم عالة على نحاة البصرة؛ إذ استمدوا علمهم منها ومن علم الخليل المتمثل في كتاب سيبويه خاصة.
وقد ظلت الكوفة نحو قرن من الزمن منصرفة عن علم النحو بما شغلها من رواية الأشعار، والأخبار، والنوادر، ثم اتجه علماؤها إلى دراسة علم النحو، فتلمذوا للبصريين وأخذوا عنهم، ثم خالفوهم في أمور متعددة منها: أن البصريين لا يلتفتون إلى كل مسموع، ولا يقيسون على الشاذ من كلام العرب شعرًا ونثرًا، بل كانوا يقيسون على الكثير المطرد. أما أهل الكوفة فقد كانوا يقيسون على البيت النادر والقول الشاذ، والشاهد الفرد الذي لا نظير له.
يقول السيوطي: "اتفقوا على أن البصريين أصح قياسًا، لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع، ولا يقيسون على الشاذ، والكوفيون أوسع رواية"، ومعنى ما ذكره السيوطي أن للكوفيين عناية فائقة بالمروي من الأشعار والأخبار والنوادر تفوق عناية البصريين، وأن هذه العناية قد دفعت الكوفيين إلى قبول جميع ما سمعوا، وجعله أصلًا يُقاس عليه، وقد وُصف الكسائي -وهو من أئمة الكوفة- بأنه كان
يسمع البيت الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلًا ويقيس عليه، وكان من آثار ذلك أن قلَّ عند الكوفيين التأويل والتقدير، والقول بالندرة والشذوذ.
وكان من آثار ذلك أيضًا أن عقد الكوفيون كثيرًا من أصولهم وأحكامهم على جميع القراءات القرآنية، المتواترة والشاذة، ولم يلجئوا إلى التأويل الذي لجأ إليه البصريون، ومما يدل على أن الكوفيين يقيسون على البيت الواحد ما نقله السيوطي عن الأندلسي في (شرح المفصل) من قوله: "الكوفيون لو سمعوا بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا، وبوَّبوا عليه بخلاف البصريين، ومعنى ما ذكره السيوطي نقلًا عن الأندلسي أن الكوفيين يجعلون البيت الواحد دليلًا على القاعدة، ولو كان مخالفًا للأصول، بل إنهم كانوا يقيسون على شطر بيت لا يُعرف له بقية أو قائل، كمذهبهم في جواز دخول اللام في خبر لكن، كما يجوز في خبر إن مستشهدين بقول الشاعر:
...... ..... ..... ...... .......
…
ولكنني من حبها لكميد
مع نص أكثر العلماء على أن هذا الشاهد لا يعرف قائله، ولا تعرف له تتمة، ولا سوابق ولا لواحق. أما البصريون: فإنهم يُحافظون على القواعد، ويبقون الأصول على حالها، ويحملون البيت النادر على القلة، أو الشذوذ، أو الضرورة، أو مخالفة الأصول. ولذلك كانت قواعدهم أضبط، وأصولهم أتقن، وليس هذا بعيب في منهج البصريين؛ فقد أرادوا التثبت في قبول المادة اللغوية التي يبنون عليها قواعدهم، ولذلك كان مما افتخر به البصريون على الكوفيين أن قالوا: نحن نأخذ اللغة من حَرَشَة الضِّبَاب، وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها من أكلة الشواء وباعة الكواميخ. وحرشة الضباب أي: صائدو الضباب، والضباب:
جمع ضب، وهو حيوان يعيش في الصحراء يُشبه التمساح الصغير. ويُروى: نحن نأخذ اللغة من حوشة الضباب، والحوشة بفتح الحاء المهملة والواو والشين المعجمة: جمع حاش، ككاتب وكتبة، والقياس إعلاله بقلب واوه ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وصُحح شذوذًا يقال: حاش الصيد حَوْشًا وحياشة إذا جاءه من حواليه؛ ليصرفه إلى الحِبالة.
قوله: وأكلة
…
إلى آخره، الأكلة: جمع آكل، واليرابيع: جمع يربوع، وهو حيوان معروف كالفأر إلا أنه أطول من الفأر آذانًا وذنبًا، ورجلاه أطول من يديه على عكس الزرافة، والكواميخ: جمع كامخ، وهو نوع من الإدام، ومعناه: أن البصريين قد أخذوا اللغة من الأعراب سكان البوادي الذين لا إلمام لهم بالحاضرة، فأخذوها من منبعها الصافي قبل أن تُكدره دلاء الأعاجم. أما الكوفيون فقد تلقوا اللغة عن الحواضر أهل الأسواق والاختلاط بغيرهم ممن أفسدوا الألسنة، وحرفوا اللغات، فلا عبرة بمن يأخذون عنهم. وخلاصة القول في ذلك: أن البصري أضبط في الأخذ، وأتقن في الاستنباط، وأن الكوفي أوسع في الرواية، وأكثر في النقل. وقد عرف ابن جني الكوفيين ساعة روايتهم فقال في (الخصائص):"أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة" انتهى.
ونشير إلى أن إتقان الأصول عند البصريين، وضبط القواعد لديهم لا يعني خطأ الكوفيين في جميع ما ذهبوا إليه، ولا يعني اتباع البصريين في جميع ما قالوا به، بل الواجب اتباع الدليل، وقد نقل السيوطي عن أبي حيان الأندلسي قوله:"ولسنا متعبدين باتباع مذهب البصريين، بل نتبع الدليل" انتهى. والمراد: أنه ليس مطلوبًا منا اتباع البصريين على وجه التعبد، حتى نقتفي مذهبهم ونأخذ بقولهم، دون أن يظهر لنا وجهه، ونتبين دليله، بل المطلوب هو اتباع الدليل القوي
الصحيح؛ سواء أكان مع البصريين أم مع الكوفيين، ويمكن أن نُوجز هنا أهم العوامل التي أعانت على ترجيح مذهب النحويين البصريين فيما يلي:
أولًا: نزوح القبائل العربية العريقة في اللغة الفصحى إلى البصرة، فهي تقع على مقربة من البادية التي استطاب أهلها النزوح إليها، وأكثرهم من العرب الأقحاح الذين احتفظوا بلغتهم العربية، خالية من شائبة اللحن والعجمة، ممن هم من قيس وتميم. ثانيًا: وقوع البصرة على مقربة من سوق المِرْبَد، تلك السوق التي صارت في الإسلام صورة معدلة لعكاظ الجاهلية، ففيها تَنَاشُد وتَفَاخُر، وفيها تجارة وبيع، وفيها النوادي الأدبية والمجامع الثقافية، وفيها مجالس العلم والأدب. ثالثًا: الموقع الجغرافي للبصرة، فإنها على طرف البادية مما يلي العراق، وأدنى المدن إلى العرب الموثوق بعربيتهم، فعلى مقربة منها بوادي نجد غربًا، والبحرين جنوبًا، والأعراب تفدُ إليها منهما، ومن داخل الجزيرة العربية بكثرة.
رابعًا: تبادل الرحلات بين علماء البصرة إلى البادية، وورود أعراب البادية إليهم لشئون معايشهم، ومشافهة علماء البصرة للأعراب، وأخذهم اللغة من منابعها الصافية. خامسًا: حِرص علماء البصرة على تحري سلامة لغة العربي الذين يأخذون عنه، وتثبتهم من ضبط الرواة وصدقهم، ذلك كله وغيره كان له أكبر الأثر في فصاحة أهل البصرة، وسلامة لغتهم، قال شيخنا المرحوم الشيخ محمد الطنطاوي -طيب الله ثراه- في كتابه القيم (نشأة النحو) بعد ذكره بعض ما تميزت به مدينة البصرة مهد النحو البصري وموطنه قال: "فكان لزامًا لذلك أنه لم تدون قواعدهم -أي: قواعد البصريين- إلا مدعومة على عناصر ثلاثة؛
الأول: سلامة من أخذوا عنه من العرب المقطوع بعراقتهم في العروبة، وصونهم فطرهم من تسرب الوهن إليها من رطانة الحضارة حتى لم يأخذوا إلا عن سكان البوادي. الثاني: الثقة برواية ما سمعوه عنهم من طريق الحفظة. الثالث: الكثرة الفياضة من هذا المسموع التي تخول لهم القطع بنظائره، وتسلمهم إلى الاطمئنان عليه في نوط القواعد به"، انتهى ملخصًا.
وقد استشهد شيخنا الطنطاوي رحمه الله على تحرز علماء البصرة عن التلقي ممن يلمحون عليهم ضعفًا في اللغة من العرب الذين يأخذون عنهم بما قاله ابن جني في (الخصائص) في باب ترقب اللغات، من أن أبا عمرو بن العلاء، وهو من أشهر العلماء البصريين الذين اعتمد سيبويه على علمهم في (الكتاب)، استضعف فصاحة أبي خيرة نهشل بن زيد لما سأله عن قول العرب: استأصل الله عرقاتهم أي: قلع أصولهم، فنصب أبو خيرة التاء من عِرْقاتهم، وهو جمع عرقة، ومعناها الأصل، فهو جمع مؤنث سالم وقع مفعولًا به، فقال له أبو عمرو:"هيهات أبا خيرة، لان جلدك". يريد أنه بَعُد عهده بالبادية؛ حيث الخشونة والقشف، وأثر فيه الحضر، فنال ذلك من فصاحته.
ويقول المرحوم الدكتور شوقي ضيف رحمه الله في كتابه (المدارس النحوية): "وعلى هذه الشاكلة شادت البصرة صرح النحو، ورفعت أركانه؛ بينما كانت الكوفة مشغولة عن ذلك كله، على الأقل حتى منتصف القرن الثاني للهجرة بقراءات الذكر الحكيم، ورواية الشعر والأخبار، وقلما نظرت في قواعد النحو إلا ما سقط إلى بعض أساتذتها من نحاة البصرة؛ إذ كانوا يتتلمذون لهم، ويختلفون إلى مجالس محاضراتهم، وإملاءاتهم، وكان القدماء يعرفون ذلك معرفة
دقيقة، فنصوا عليه بعبارات مختلفة، من ذلك قول ابن سلام: وكان لأهل البصرة في العربية قُدْمَة -أي: سابقة في الأمر- وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية. ويصرح ابن النديم في هذا المجال تصريحًا أكثر وضوحًا إذ يقول في حديثه عن نحاة الكوفة والبصرة: إنما قدمنا البصريين أولًا؛ لأن علم العربية عنهم أُخذ" انتهى.
ويذكر الدكتور شوقي رحمه الله رحمة واسعة- أنه يظهر أنه كُفل للبصرة اتصال ببعض الثقافات الأجنبية في القرن الثاني للهجرة ما لم يُكفل للكوفة، فقد كانت مرفأ تجاريًّا للعراق على خليج العرب، فنزلتها عناصر أجنبية أعدت لوصلها بثقافاتها المختلفة، وهكذا نشأ النحو، وتكوَّن في البصرة، وكانت الكوفة وقتذاك منشغلة عنه بالقراءات وروايتها رواية دقيقة، وبالفقه كذلك. كما عنيت عناية فائقة برواية الأشعار القديمة وصنعة دواوين الشعر، وإن كانت لم تعن بالتحري والتثبت فيما جمعت من أشعار؛ حتى إن أبا الطيب اللغوي في كتابه (مراتب النحويين) ليقول:"الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بيِّن في دواوينهم" انتهى.
ويقول الأفغاني في كتابه (من تاريخ النحو): "أما الكوفة فهي أدخل في العراق، وأقرب إلى الاختلاط بالأعاجم، ولغة أعرابها ليست لها سلامة لغة أعراب البصرة، فأكثرهم يَمَن، وبها قليل من قبائل أخرى، واليمن لا يُحتج بلغتها؛ لتغيرها بالاختلاط بالفرس والأحباش، ثم بين الكوفة وجزيرة العرب صحراء السماوة الشاسعة، فلذا لم تكن رحلات علمائها إلى الجزيرة كرحلات علماء البصرة"، ويذكر لنا الأفغاني قصة نقلًا عن (وفيات الأعيان) هي أبعد في الدلالة على ما حكاه أبو الطيب اللغوي، وهي قصة خلف الأحمر، وهو راوية علماء