الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(الاستدلال بالاستحسان)
معنى الاستحسان، ومكانته بين أدلة النحو
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه؛ أما بعد:
إن الاستحسان في اللغة: عَدُّ الشيء حسنًا، وأصله مصطلح من مصطلحات الفقه وأصوله، وهو أحد الأدلة المختلف فيها عند الفقهاء، ومن تعاريفه: أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته فلا يقدر على إظهاره، وقيل: إن الاستحسان عبارة عن دليل يقابل القياس الجلي الذي تسبق إليه الأفهام، وهذا المعنى ينقاد مع ما أراده ابن جني الذي أفرد له بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب في الاستحسان. وكما اختلف الفقهاء في الأخذ به اختلف النحويون أيضًا في الأخذ به على قولين؛ الأول: عدم الأخذ بالاستحسان؛ لأن في الأخذ به تركًا للقياس ومخالفة له. والثاني: جواز الأخذ به، وقد حكى القولين أبو البركات الأنباري، فقال في (لمع الأدلة):"اعلم أن العلماء اختلفوا في الأخذ به، فذهب بعضهم إلى أنه غير مأخوذ به؛ لِمَا فيه من التحكم وترك القياس، وذهب بعضهم إلى أنه مأخوذ به، واختلفوا فيه، فمنهم من قال: هو ترك قياس الأصول لدليل، ومنهم من قال: هو تخصيص العلة"، انتهى.
ومعنى ما ذكره الأنباري: أن القائلين بجواز الأخذ بالاستحسان قد اختلفوا في حقيقته، فذهب بعضهم إلى أن المراد به هو أن يُترك الأصل إلى غيره لدليل، وقد ذكر الأنباري أن من أمثلة ترك قياس الأصول مذهب مَن ذهب إلى أن رافع الفعل المضارع عند تجرده من الناصب والجازم، هو حرف المضارعة الزائد في أوله، يعني: أن القائل بذلك قد ترك قياسَ الأصول؛ لأن حرف المضارعة صار جزءًا من الفعل، والأصولُ تدل على أن يكون العامل غيرَ المعمول، وألا يكون جزءًا
منه؛ لأن جزء الشيء لا يعمل فيه، وقد نسب هذا الرأي للكسائي، وقد ترك قياس الأصول لدليل اعتمد عليه، وهو ملازمة هذه الأحرف للمضارع في الأحوال الثلاثة، ولم تعمل مع عاملي النصب والجزم؛ لقوتهما عنها.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالاستحسان تخصيص العلة، ومعنى تخصيص العلة عدم اطرادها، ومثال تخصيص العلة: ما جاء في جمع أرض جمعًا سالمًا لمذكر بالواو والنون رفعًا، والياء والنون نصبًا وجرًّا، مع أنها ليست عَلَمًا لمذكر ولا صفةً له، فقد فقدت شروط جمع المذكر السالم؛ لأنها اسم جنس جامد مؤنث، وإنما جُمِعت هذا الجمع، فقيل: أرضون، عوضًا من حذف تاء التأنيث؛ لأن الأصل أن يقال في أرض: أرضة، بالهاء الدالة على التأنيث؛ لأنها علامة لفظية، فهي أصل لتقديرها، فلما حُذِفت التاء في اللفظ مع بقاء معناها جُمعت بالواو والنون عوضًا من التاء المحذوفة. ونلحظ: أن هذه العلة غير مطردة، فالعرب قد خصصوا هذه اللفظة بجمعها جمع مذكر سالمًا، ولم يُسمع ذلك في نظائرها من كل اسم مؤنث حُذفت منه تاء التأنيث، نحو: شمس وقِدر ودار، فإن الأصل في هذه الكلمات الثلاث: شمسة وقدرة ودارة، ولا يجوز أن تجمع بالواو والنون، فلا يقال: شمسون ولا قدرون ولا دارون؛ لأن هذا الباب سَماعي يُقتصر فيه على ما ورد، ولا يتعداه إلى غيره.
كما نلحظ: أن الاستحسان لا يكون إلا عن دليل؛ لأن فيه عدولًا عن القياس، ولا يعدل عن القياس إلا بدليل، ولذلك نعَى الأنباري على مَن أجاز الاستحسان بلا دليل، وذكر أن القائل بذلك لا يُلتفت إلى قوله ولا يُعول عليه، وأن ما حكي عن بعضهم من أن الاستحسان هو ما يستحسنه الإنسان من غير دليل، فليس عليه تعويل. وبعد أن عَرَضْنا مذهبي العلماء في الاستحسان نشير