الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني عشر
(تابع الاستصحاب)
الاستصحاب من الأدلة المعتبرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه أما بعد:
عرفنا مما سبق أن هناك علاقةً عضوية تربط بين أصول الفقه وأصول النحو، وقد أكّد أبو البركات الأنباريُّ هذه العَلاقةَ في مؤلفاته التي سار بها على نهج الفقهاء ومصطلحاتهم؛ ومن هنا كانت أول إشارة وردت بلفظ استصحاب الحال صادرةً عنه، ثم تناقلها النحويون مِن بعدِهِ، وقد وقفنا على قوله في (لمع الأدلة):"وهو -أي: الاستصحاب- من الأدلة المعتبرة، والمراد به استصحابُ حال الأصل في الأسماء، وهو الإعراب، واستصحاب حال الأصل في الأفعال، وهو البناء، حتى يوجد في الأسماءِ ما يُوجب البناءَ، ويوجدَ في الأفعالِ ما يُوجب الإعرابَ". انتهى.
وقد تكرّر حديثُه عن الاستصحاب في كتابه (الإنصاف) ووصفُه إياه بأنه من الأدلة المعتبرة، كقوله في المسألة السابعة والخمسين على لسان البصريين؛ في معرض إبداء حجتهم في أنه لا يجوز الخفض في القسم بإضمار حرف الخفض من غير عوض -قال على لسانهم:"أجمعْنا على أنّ الأصل في حروف الجرّ ألا تعملَ مع الحذفِ، وإنما تعملُ مع الحذف في بعض المواضع إذا كان لها عوضٌ، ولم يوجد ها هنا، فبقِينا فيما عداه على الأصل، والتمسكُ بالأصل تمسُّكٌ باستصحاب الحال، وهو من الأدلة المعتبرة". انتهى.
كما ذكر أنّ التمسكَ باستصحاب الحال خروجٌ مِن عهدةِ المطالبةِ بالدليل، ومَن عدَلَ عن الأصل فقد بقيَ مرتهَنًا بإقامة الدليل؛ ففي المسألة الأربعين -التي عرضنا طَرَفًا منها- قال على لسان البصريين في استدلالهم على أنّ كمْ مفردةٌ وليست مركبةً كما ذهب إلى ذلك الكوفيون: "إنما قلنا: إنها مفردةٌ؛ لأنّ الأصلَ
هو الإفرادُ، وإنما التركيبُ فرعٌ، ومَن تمسك بالأصل خرَجَ عن عهدة المطالبة بالدليل، ومَن عدَل عن الأصل افتقر إلى إقامة الدليل؛ لعدوله عن الأصل، واستصحابُ الحال أحدُ الأدلة المعتبرة". انتهى.
وفي المسألة السابعة والستين ذهب الكوفيون إلى أنّ أوْ تأتي بمعنى الواو، وبمعنى بلْ، وذهب البصريون إلى أنها لا تكون بمعنى أيٍّ منهما، وقال على لسان البصريين في استدلالهم على ما ذهبوا إليه:"الأصل في أوْ أن تكون لأحد الشيئين على الإبهام، بخلاف الواو وبلْ؛ لأنّ الواو معناها الجمعُ بين الشيئين، وبل معناها الإضرابُ، وكلاهما مخالفٌ لمعنى أوْ، والأصلُ في كل حرفٍ ألا يدلَّ إلا على ما وُضِعَ له، ولا يدلّ على معنى حرفٍ آخَرَ؛ فنحن تمسّكْنا بالأصل، ومَن تمسّكَ بالأصًل استغنَى عن إقامة الدليلِ، ومَنْ عدَلَ عن الأصل بقيَ مرتهَنًا بإقامة الدليل، ولا دليلَ لهم يدلّ على صحة ما ادَّعَوْه".
وفي المسألة الثامنة والثمانين ذهب الكوفيون إلى أنّ إنِِ الشرطيةَ تقع بمعنى إذ، وذهب البصريون إلى أنها لا تقع بمعنى إذ، وقال الأنباريُّ على لسان البصريين في استدلالهم على ما ذهبوا إليه:"أجمعْنا على أنّ الأصل في إنْ أنْ تكون شرطًا، والأصل في إذ أنْ تكون ظرفًا، والأصل في كل حرف أن يكون دالًّا على ما وُضع له في الأصل، فمن تمسّك بالأصل فقد تمسّك باستصحاب الحال، ومَن عدَل عن الأصل بقيَ مرتهَنًا بإقامة الدليل، ولا دليلَ لهم يدلّ على ما ذهبوا إليه".
وفي المسألة الحادية والتسعين ذهب الكوفيون إلى أنّ كيف يُجازَى بها كما يُجازَى بمتَى ما، وأينما وما أشبهَهُما من كلمات الجزاء. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يُجازَى بها. وقال الأنباريُ فيما قاله على لسان البصريين في استدلالهم على صحة ما ذهبوا إليه: "إنّ الأصل في الجزاء أن يكون بالحرفِ، إلا أنْ يُضطرَّ إلى
استعمال الأسماء، ولا ضرورةَ ها هنا تُلجِئُ إلى المجازاة بها؛ فينبغي ألا يُجازَى بها؛ لأنَّا وجدنا أيًّا تُغنِي عنها". وفي المسألة الثالثة بعد المائة ذهب الكوفيون إلى أنّ هذا وما أشبهَهُ من أسماء الإشارة يكون بمعنى الذي والأسماءِ الموصولةِ، نحو: هذا قال ذاك زيدٌ، أي: الذي قال ذاك زيدٌ. وذهب البصريون إلى أنه لا يكون بمعنى الذي، وكذلك سائرُ أسماء الإشارة لا تكون بمعنى الأسماء الموصولة.
وقال الأنباريّ على لسان البصريين في معرض الاستدلال على صحة ما ذهبوا إليه: "إنما قلنا ذلك؛ لأنّ الأصل في هذا وما أشبههُ من أسماء الإشارة أن يكون دالًّا على الإشارة، والذي وسائرُ الأسماء الموصولةِ ليستْ في معناها؛ فينبغي ألا يُحملَ عليها، وهذا تمسكٌ بالأصل واستصحابِ الحال، وهو من جملة الأدلة المذكورة، فمَن ادَّعَى أمرًا وراءَ ذلك بقيَ مرتهنًا بإقامة الدليل، ولا دليلَ لهم يدلّ على ما ادَّعَوْه". انتهى.
وقد سار على درب الأنباريُّ في عدِّ استصحاب الحال من الأدلةِ المعتبرةِ في أصول النحو بعضُ المتأخرين من النحاة، ومنهم عبدُ اللطيف بنُ أبي بكرٍ الشَّرْجِيُّ الزَّبِيدِيُّ، المتوفى سنة اثنتين وثمانمائة من الهجرة، وهو صاحب كتاب (ائتلاف النُّصْرة في اختلاف نُحاة الكوفة والبصرة). قال هذا العالم اليمني على لسان البصريين في المسألة السابعة من مسائل الفصل الثالث:"أجمعْنا على أنّ الخفض في الأصل إنما يكون بالحرف، فالتمسُّكُ بالأصل تمسكٌ باستصحاب الحال، وهو دلالةٌ معتبرة". وفي المسألة العاشرة قال: "والأصل في كل حرف ألا يدلَّ إلا على ما وُضِعَ له، ولا يدلّ على معنى حرف آخرَ؛ تمسكًا بالأصل، ومَن تمسك بالأصل استغنى عن الدليل". وذكر مثل ذلك في المسألة التاسعةَ عشرةَ، وأضاف:"واستصحاب الحال حجةٌ. ومن عدل عن الأصل بقي مرتهنًا بإقامة الدليل".
أمّا السيوطيُّ فقد رأيناه يُعوِّل على كلام الأنباريِّ، ويرى رأيه في أنّ الاستصحاب من أصول النحو الغالبة، وكان يقول:"والمسائل التي استدلّ فيها النحاةُ بالأصل كثيرةٌ جدًّا لا تحصَى"، وقد كثرت المسائل التي استدلّ فيها السيوطيُّ باستصحاب حال الأصل في مواضع متفرقةٍ من مؤلفاته. ونذكر هنا مسألتين أوردهما السيوطي في كتابه (هَمع الهوامع)؛ المسألة الأولى: الأصل في البناء أن يكون على السكون، ذكر السيوطي أنّ الأصل في البناء السكون، وقال:"لأنّ السكون أخفُّ، فلا يُعدَل عنه إلا لسبب؛ ولأنّ الأصل عدمُ الحركة، فوجب استصحابُه -أي: استصحابُ الأصل، وهو السكون- ما لم يمنع منه مانع".
والمسألة الثانية: تسكين فعل الأمر؛ استصحابًا للأصل، قال في مبحث المضمَر:"إذا أُسنَدَ الفعلُ إلى التاء والنون ونا سكَنَ آخرهُ، كضربْتُ، وضربْنَ، ويضربْنَ، واضربْنَ، وضربْنا، وعلة الإسكان عند الأكثر كراهةُ توالي أربعِ حركات فيما هو كالكلمة الواحدة؛ لأنّ الفاعلَ كجزءٍ من فعله، ثم حُمِلَ المضارعُ على المعنى، وأمّا الأمرُ فيسكُن استصحابًا". انتهى. ومعنى ما ذكره السيوطي أنّ فعل الأمر يبنى على السكون استصحابًا للأصل؛ لأنّ الأصل في البناء أن يكون على السكون.
ومع عناية السيوطي بهذا الأصل وعدِّه إياه واحدًا من الأصول الغالبة، وجدناه لم يرتضِ اتخاذَه دليلًا لعلة بناء الآنَ، وردَّ قولَ مَن استدلَّ به وهو الفرّاءُ؛ إذ ذهب الفرّاءُ في أحد قوليه إلى أنّ الآنَ إنما بُنيَ؛ لأنه نُقِلَ من فعلٍ ماضٍ وهو آنَ فبقيَ على بنائه؛ استصحابًا للأصل. قال الفرّاءُ في (معاني القرآن): "وإن شئتَ جعلتَ الآن أصلها من قولك: آنَ لكَ أنْ تفعلَ، أَدْخَلْتَ عليها الألفَ واللامَ،