الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس
(جواز التعليل بعلتين وجواز تعليل حكمين بعلة واحدة)
تعليل الحكم الواحد بعلتين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
إنما جاز تعليل الحكم الواحد بعلتين، لأن المعاني لا تتزاحم، والعلل موضحة ومبينة وليست مؤثرة لأنها بعد الوقوع، وقد استمدَّ السيوطي مادة هذه المسألة، وهي جواز تعليل الحكم بعلتين من كتابي (الخصائص) و (لمع الأدلة)، ومجمل ما أورده ابن جني في (الخصائص) في باب عنوانه: باب في حكم المعلول بعلتين، أن هذا الباب على ضربين؛ أحدهما: ما لا نظر فيه، والآخر محتاج إلى النظر، ومن أمثلة الضرب الأول نحو قولهم: هذه عشريَّ، وهؤلاء مسلمي، فإن الأصل عشروي ومُسْلِمُويَ، فقُلبت الواو ياء لأمرين كل واحد منهما على حدته موجب للقلب من غير احتياج إلى الآخر؛ للاستعانة به على قلبه. أحدهما: اجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بالسكون، والآخر أن ياء المتكلم أبدًا تكسر الحرف الذي قبلها إذا كان صحيحًا لمناسبتها نحو: هذا غلامي، ورأيت صاحبي، وقد ثبت فيما قبل أن نظير الكسر في الصحيح الياء في هذه الأسماء؛ فوجب قلب الواو ياء، وإدغامها في الياء؛ ليمكن كسر ما قبل ياء المتكلم، فهذه علة غير الأولى في وجوب قلب الواو ياء.
ومن المعلول بعلتين أيضًا قولهم: سي في لاسيما، وري، والسي هو المثل والنظير تقول مثلًا: أتقن علوم العربية ولاسيما النحو، والمعنى: وبخاصة النحو، وسي أصله سِوْيٌ، وري أصله رويٌ؛ فانقلبت الواو ياء -إن شئت- لأنها ساكنة غير مدغمة وبعد كسرة، وإن شئت لأنها ساكنة قبل الياء، فهاتان علتان، إحداهما: كقلب ميزان أو كعلة قلب ميزان، وأصله موزان.
والأخرى: كعلة طي ولي مصدري طويت ولويت، وأصل المصدرين طوي ولوي، وكل من هاتين العلتين مؤثرة على حدة في القلب.
فهذا ونحوه أحد ضربي الحكم المعلول بعلتين، والضرب الآخر منهما ما فيه النظر، وهو باب ما لا ينصرف، وذلك أن علة امتناعه من الصرف إنما هي لاجتماع شبهين فيه من أشباه الفعل، أو لوجود شبه واحد يقوم مقام الشبهين كما مضى تفصيله في بابه من النحو، كما أورد ابن جني في (الخصائص) في باب عنوانه: باب في تقاود السماع، وتقارع الانتزاع أنه قد يكثر الشيء، فيُسأل عن علته كرفع الفاعل ونصب المفعول، فيذهب قوم إلى شيء وآخرون إلى غيره، فيجب إذن تأمل القولين واعتماد أقواهما أي: أن يعتمد المتأمل ما يراه قويًّا من ذلك؛ لقوة مدركه، أو لموافقته المنقول، ويرفض الآخر، ولا يعتد به، فإن تساويا في القوة أي: في قوة المدرك وموافقة المنقول؛ لم ينكر اعتقادهما جميعًا، فقد يكون الحكم الواحد معلولًا بعلتين.
أما أبو البركات الأنباري، فذكر في الفصل التاسع عشر من (لمع الأدلة) أن العلماء اختلفوا في تعليل الحكم بعلتين فصاعدًا، فذهب قوم إلى أنه لا يجوز؛ لأن هذه العلة أي: النحوية مشبهة بالعلة العقلية، والعلة العقلية لا يثبت الحكم معها إلا بعلة واحدة أي: لأنها مؤثرة، ولا يوجد أثر واحد لمؤثرين، فكذلك ما كان مشبهًا بها. وذهب قوم إلى أنه يجوز أن يعلل الحكم بعلتين فصاعدًا، وذلك مثل أن يدل على كون الفاعل ينزل منزلة الجزء من الفعل بعلل متعددة:
الأولى: أنه تسكن له لام الفعل إذا اتصل به ضمير رفع متحرك نحو: أنا فهمت، ونحن فهمنا، وهن فهمن.
والثانية: أنه يمتنع العطف عليه إذا كان ضميرًا متصلًا قبل الفصل بينه وبين ما عطف عليه بشيء، ويجوز العطف مع الفصل كالفصل بالضمير المنفصل مثل: أحسنت أنت وإخوانك، فما بعد الواو معطوف على الضمير المرفوع المتصل الواقع فاعلًا في محل رفع، وصحَّ ذلك للفصل بالضمير المنفصل، وهو أنت، والضمير المرفوع المستتر في ذلك كالضمير المرفوع المتصل، ومن ذلك قوله تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة: 35) فزوجك معطوف على الضمير المرفوع المستتر في {اسْكُنْ} ؛ لأن الضمير المرفوع المتصل أو المستتر كالجزء من عامله لفظًا ومعنى، ولا يُعطف على جزء الكلمة، فإذا فُصل بينه وبين ما عُطف عليه بفاصل ما؛ حصل له نوع من الاستقلال فجاز العطف عليه.
والثالثة: وقوع الإعراب بعده في الأمثلة الخمسة أي: في الأفعال الخمسة فتقول: الطلاب يجتهدون ولم يقصروا، ولن يقصروا، فواو الجماعة في الأفعال الثلاثة المذكورة ضمير رفع؛ لأنها فاعل، والفعل الأول مرفوع بثبوت النون، والثاني مجزوم بحذفها، والثالث منصوب بحذفها كذلك، فإعراب الثلاثة وقع بعد الضمير. ومن المعلوم أن الإعراب إنما يكون في أواخر الكلم مما يدل على أن الضمير المرفوع عُدَّ كالجزء من الفعل، وكأن آخر الفعل ما بعده.
والرابعة: اتصال تاء التأنيث بالفعل إذا كان الفاعل أو نائبه مؤنثًا.
والخامسة: قول العرب في النسب إلى كنت: كنتيٌ، فاعتبروا كان واسمها -وهو ضمير مرفوع متصل- كلمة واحدة، فألحقوا بآخرها علامة النسب، وهي الياء المشددة كقول الشاعر:
فأصبحت كنتيًّا وأصبحت عاجنًا
…
وشر خصال المرء كنت وعاجن
فقوله: كنتي معناه أن يقول: كنت أفعل في شبابي كذا، وكنت في حداثتي أصنع كذا، والعاجن هو الذي أسن، فلا يستطيع القيام إلا إذا اعتمد على يديه من شدة ضعفه، فأجروا ضمير الرفع مجرى الدال من زيد، وكأنهم نبَّهوا بهذا على قوة اتصال الفعل بهذا الضمير المتصل به، وأنهما قد حلَّا جميعًا محل الجزء الواحد.
والسادسة: قولهم: حبذا، من نحو: حبذا زيد يعني: أنهم ركبوا حَب وهو فعل مع اسم الإشارة ذا، فصارا بمنزلة اسم واحد حكم على موضعه بالرفع على الابتداء، وهو ظاهر مذهب الخليل وسيبويه، كما في (الكتاب). وقد تغلَّب على المركب في هذا القول جانب الاسمية.
والسابعة: قولهم: لا أحبذه، أي: لا أقول له مادحًا إياه: حبذا، فلا نافية، وأحبذ فعل مضارع، فاعله ضمير مستتر تقديره: أنا، والهاء مفعوله، وقد تغلب على المركب في هذا القول جانب الفعلية.
والثامنة: إبدالهم تاء الضمير طاء في قولهم: فحصط برجلي، وأصله فحصت، فشبهوا تاء الفاعل بتاء افتعل كاصطبر، وأصله اصتبر؛ فأبدلت التاء طاء لتجانس الصاد في الإطباق، والإطباق هو أن ترفع في النطق أطراف لسانك إلى الحنك الأعلى مطبقًا له، فيفخم ذلك نطق الحرف، وحروف الإطباق هي: الصاد والضاد والطاء والظاء.
قال ابن جني في (سر صناعة الإعراب): "ووجه شبه تاء فعلت بتاء افتعل أنها ضمير الفاعل، وضمير الفاعل قد أُجري في كثير من أحكامه من الفعل مجرى بعض أجزاء الكلمة من الكلمة، وذلك لشدة اتصال الفعل بالفاعل" انتهى.