المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[مقدمة المؤلف] بسم الله الرّحمن الرّحيم 1 الحمد للَّه مسبّب الأسباب، - الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية

[ابن الطقطقي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌الفصل الأول في الأمور السّلطانيّة والسّياسات الملكيّة

- ‌فصل من الدّعاء مختصر

- ‌الدولة الأولى: دولة الأربعة وهم المعروفون بالخلفاء الراشدين

- ‌شرح كيفية الحال في ذلك على سبيل الاختصار

- ‌شرح كيفية ذلك

- ‌شرح مبدإ الحال في انتقال الملك من الأكاسرة إلى العرب

- ‌شرح الحال في تحيّز الجيش إلى العراق واستخلاص الملك من الفرس

- ‌ذكر طرف مستملحة وقعت حينئذ

- ‌ذكر ما آلت إليه حال يزدجرد

- ‌شرح كيفيّة تدوين الدّواوين

- ‌شرح مبدإ وقعة الجمل وكيفية الحال في ذلك

- ‌شرح كيفيّة الحال في ذلك

- ‌حديث الخوارج وما كان منهم وما آلت بهم الحال إليه

- ‌كرامة لأمير المؤمنين عليّ صلوات الله عليه

- ‌وفاة الأربعة

- ‌وفاة أبي بكر- رضي الله عنه

- ‌مقتل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه

- ‌ذكر الشّورى وصفة الحال في ذلك

- ‌مقتل عثمان بن عفّان

- ‌مقتل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام

- ‌الدولة الثانية: الدولة الأموية وهي التي تسلّمت الملك من الدولة الأولى

- ‌ذكر شيء من سيرة معاوية، ووصف طرف من حاله

- ‌كلام في معنى البريد

- ‌ثمّ ملك بعده ابنه يزيد

- ‌شرح كيفيّة الحال في ذلك على وجه الاختصار

- ‌شرح كيفية وقعة الحرّة

- ‌شرح كيفيّة غزو الكعبة

- ‌ثم ملك بعده ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية

- ‌شرح كيفية ذلك على وجه الاختصار

- ‌ثمّ ملك ابنه عبد الملك بن مروان

- ‌ثمّ ملك ابنه الوليد

- ‌ثمّ ملك بعده أخوه سليمان بن عبد الملك

- ‌ثمّ ملك بعده عمر بن عبد العزيز بن مروان

- ‌ثمّ ملك بعده يزيد بن عبد الملك

- ‌ثمّ ملك بعده أخوه هشام بن عبد الملك

- ‌شرح مقتل زيد بن عليّ بن الحسين إمام الزيديّة رضي الله عنه

- ‌ثمّ ملك بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك

- ‌ثمّ ملك بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك

- ‌ثمّ ملك بعده أخوه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان

- ‌ثمّ ملك بعده مروان بن محمّد بن مروان

- ‌شرح كيفيّة الحال في ذلك على سبيل الاختصار

- ‌[الكلام على الدولة العباسية]

- ‌ذكر انتقال الملك من بني أميّة إلى بني العبّاس

- ‌شرح ابتداء أمر أبي مسلم الخراسانيّ ونسبه

- ‌مقدّمة أخرى قبل الخوض فيها

- ‌وها هنا موضع حكاية

- ‌شرح ابتداء الدولة العباسيّة

- ‌شرح كيفيّة الوقعة بالزّاب وخذلان مروان وانهزامه

- ‌شرح مقتل مروان الحمار [3]

- ‌وهي التي تسلمت الملك من الدولة الأموية

- ‌أول خليفة ملك منهم: السفّاح

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌ذكر شيء من سيرته ومقتله

- ‌ذكر وزارة خالد بن برمك وشيء من سيرته

- ‌ثمّ ملك بعد أخوه أبو جعفر المنصور

- ‌شرح كيفيّة الحال في بناء بغداد

- ‌ذكر السّبب في فعل المنصور ما فعل ببني الحسن عليهم السلام

- ‌شرح خروج النّفس الزكيّة

- ‌شرح كيفيّة الحال في ذلك على سبيل الاختصار

- ‌شرح الحال في ذلك

- ‌شرح كيفيّة الحال في ذلك على سبيل الاختصار

- ‌شرح كيفيّة الحال في ذلك

- ‌شرح كيفيّة خلع عيسى بن موسى

- ‌شرح السّبب في بنائها

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة أبي أيّوب الموريانيّ للمنصور

- ‌مكرمة

- ‌ذكر القبض على أبي أيّوب سليمان الموريانيّ

- ‌وزارة الربيع بن يونس للمنصور

- ‌ثمّ ملك بعده ابنه محمّد المهديّ

- ‌شرح كيفيّة الحال في ذلك

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة أبي عبيد الله معاوية بن يسار للمهديّ

- ‌وزارة أبي عبيد الله يعقوب بن داود للمهديّ

- ‌شرح السّبب في القبض عليه وكيفيّة ما جرى

- ‌وزارة الفيض بن أبي صالح للمهديّ

- ‌انقضت أيّام المهديّ ووزرائه ثمّ ملك بعده ابنه موسى الهادي

- ‌شرح كيفيّة الوقعة بفخّ

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة إبراهيم بن ذكوان الحرّانيّ للهادي

- ‌خلافة هارون الرّشيد

- ‌شرح كيفيّة الحال في خروج يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ- بن أبي طالب عليه السلام

- ‌شرح الآية التي ظهرت في قضيّة يحيى بن عبد الله

- ‌شرح كيفيّة الحال في ذلك

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌شرح أحوال الدّولة البرمكيّة وذكر مبدئها ومآلها

- ‌ذكر وزارة يحيى بن خالد للرّشيد

- ‌سيرة ولده الفضل بن يحيى

- ‌سيرة جعفر بن يحيى البرمكيّ

- ‌أمارة تدلّ على انحراف دولتهم

- ‌شرح السّبب في نكبة البرامكة وكيفيّة الحال في ذلك

- ‌شرح مقتل جعفر بن يحيى والقبض على أهله

- ‌وزارة أبي العبّاس الفضل بن الرّبيع

- ‌ثمّ ملك الأمين: محمّد بن زبيدة

- ‌شرح الفتنة بين الأمين والمأمون

- ‌ثمّ ملك بعده أخوه عبد الله المأمون

- ‌شرح الحال في ذلك

- ‌شرح حال الوزارة في أيامه

- ‌وزارة ذي الرّئاستين الفضل بن سهل للمأمون

- ‌وزارة أخيه الحسن بن سهل للمأمون

- ‌وزارة أحمد بن أبي خالد الأحول للمأمون

- ‌وزارة أحمد بن يوسف بن القاسم للمأمون

- ‌وزارة أبي عباد ثابت بن يحيى بن يسار الرازيّ للمأمون

- ‌وزارة أبي عبد الله محمّد يزداد بن سويد للمأمون وهو آخر وزرائه

- ‌ثمّ ملك بعده أخوه المعتصم أبو إسحاق محمّد

- ‌شرح الحال في ذلك

- ‌شرح السّبب في بناء سامرّا وكيفيّة الحال في ذلك

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة أحمد بن عمّار بن شاذي للمعتصم

- ‌وزارة محمّد بن عبد الملك الزيّات للمعتصم

- ‌ثمّ ملك بعده هارون الواثق بويع سنة سبع وعشرين ومائتين

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌ثمّ ملك بعده أخوه جعفر المتوكّل

- ‌شرح مقتله على سبيل الاختصار

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة أبي جعفر محمّد بن الفضل الجرجرائي للمتوكّل

- ‌وزارة عبيد الله بن يحيى بن خاقان

- ‌ثمّ ملك بعده ابنه محمّد المنتصر

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة أحمد بن الخصيب للمنتصر

- ‌ثمّ ملك بعده المستعين وهو أحمد بن المعتصم

- ‌شرح الحال في ذلك

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة أبي صالح بن محمّد بن يزداد

- ‌ثمّ ملك بعده المعتزّ باللَّه

- ‌شرح حال الوزارة في أيامه

- ‌وزارة الإسكافيّ للمعتزّ

- ‌وزارة أبي موسى عيسى بن فرخان شاه للمعتزّ

- ‌وزارة أبي جعفر أحمد بن إسرائيل الأنباريّ للمعتزّ

- ‌ثمّ ملك بعده المهتدي باللَّه

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة سليمان بن وهب بن سعيد للمهتدي

- ‌ثمّ ملك بعده المعتمد على الله

- ‌شرح حال صاحب الزنج ونسبه وما آل أمره عليه

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان للمعتمد

- ‌وزارة الحسن بن مخلد للمعتمد

- ‌وزارة أبي الصّقر إسماعيل بن بلبل

- ‌وزارة أحمد بن صالح بن شيرزاد القطربّلي للمعتمد

- ‌وزارة عبيد الله بن سليمان بن وهب للمعتمد

- ‌ثمّ ملك بعده المعتضد ابن أخيه

- ‌شرح حال الوزارة في أيامه

- ‌وزارة القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب

- ‌ثمّ ملك بعده ابنه المكتفي باللَّه

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة العبّاس بن الحسن

- ‌ثمّ ملك بعده المقتدر باللَّه

- ‌شرح الحال في ذلك

- ‌شرح حال الدّولة العلويّة وابتدائها وانتهائها على سبيل الاختصار

- ‌شرح ابتداء هذه الدّولة

- ‌شرح انتهائها

- ‌رجعنا إلى تتمة خلافة المقتدر

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة ابن الفرات

- ‌وزارة الخاقانيّ

- ‌وزارة عليّ بن عيسى للمقتدر

- ‌وزارة حامد بن العبّاس

- ‌وزارة أبي القاسم عبيد الله بن محمّد بن عبيد الله ابن يحيى بن خاقان

- ‌وزارة أبي العبّاس أحمد بن عبيد الله بن أحمد ابن الخصيب للمقتدر

- ‌وزارة أبي عليّ محمّد بن عليّ بن مقلة للمقتدر

- ‌وزارة أبي القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد للمقتدر

- ‌وزارة أبي القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانيّ للمقتدر

- ‌وزارة الحسين بن القاسم بن عبيد الله ابن سليمان بن وهب للمقتدر

- ‌وزارة أبي الفضل جعفر بن الفرات

- ‌ثمّ ملك بعده أخوه القاهر

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌شرح حال دولة آل بويه وابتدائها وانتهائها

- ‌ثمّ ملك بعد القاهر ابن أخيه الراضي باللَّه

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة عبد الرحمن بن عيسى بن الجرّاح

- ‌وزارة أبي جعفر بن محمّد بن القاسم الكرخيّ للرّاضي باللَّه

- ‌وزارة سليمان بن الحسن بن مخلد للراضي باللَّه

- ‌وزارة أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات للراضي باللَّه

- ‌ثمّ ملك بعده أخوه المتّقي باللَّه أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر باللَّه

- ‌شرح حال الوزارة في أيامه

- ‌وزارة أبي عبد الله البريديّ للمتّقي

- ‌وزارة أبي إسحاق محمّد بن إبراهيم الإسكافيّ المعروف بالقراريطي للمتّقي

- ‌وزارة البريديّ مرّة ثانية

- ‌وزارة أبي العبّاس أحمد بن عبيد الله الأصفهانيّ للمتقي

- ‌وزارة أبي الحسن عليّ بن أبي عليّ بن مقلة للمتّقي

- ‌ثمّ ملك بعده أبو القاسم عبد الله المستكفي ابن المكتفي بن المعتضد

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌ثمّ ملك بعده المطيع للَّه أبو القاسم الفضل بن المقتدر

- ‌ثمّ ملك بعده ابنه عبد الكريم أبو بكر الطّائع لأمر الله

- ‌ثمّ ملك بعده القادر أبو العبّاس أحمد ابن إسحاق بن المقتدر

- ‌ثمّ ملك بعده ابنه أبو جعفر عبد الله القائم بأمر الله

- ‌شرح حال الدّولة السلجوقيّة وابتدائها وانتهائها

- ‌ذكر ابتداء حالهم

- ‌شرح حال الوزارة في أيامه

- ‌وزارة ابن جهير

- ‌وزارة رئيس الرّؤساء عليّ بن الحسين بن أحمد ابن محمّد عمر بن المسلمة

- ‌ثمّ ملك بعده ابن ابنه المقتدي بأمر الله

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة ابنه عميد الدّولة محمّد بن محمّد ابن محمّد بن جهير للمقتدي

- ‌وزارة أبي شجاع ظهير الدين محمّد بن الحسين الهمذانيّ للمقتدي

- ‌ثمّ ملك بعده ابنه المستظهر باللَّه أبو العبّاس أحمد

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة أبي المعالي هبة الله بن محمّد ابن المطّلب للمستظهر

- ‌ثمّ ملك بعده ابنه المسترشد أبو منصور الفضل بن المستظهر باللَّه

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة الشريف أبي القاسم عليّ بن طراد الزّينبيّ

- ‌وزارة الوزير أبي نصر أحمد بن الوزير نظام الملك للمسترشد

- ‌وزارة أنوشروان خالد بن محمّد القاشانيّ للمسترشد

- ‌ثمّ ملك بعده ابنه الرّاشد باللَّه أبو جعفر منصور بن المسترشد

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌ثمّ ملك بعده عمّه المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمّد بن المستظهر

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة نظام الدّين أبي نصر المظفّر بن محمّد ابن جهير البغداديّ للمقتفي

- ‌وزارة مؤتمن الدّولة أبي القاسم عليّ ابن صدقة للمقتفي

- ‌وزارة عون الدّين أبي المظفّر يحيى بن هبيرة للمقتفي

- ‌ثمّ ملك بعده المستنجد باللَّه المظفّر يوسف

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة ولده محمّد بن يحيى بن هبيرة

- ‌وزارة شرف الدّين أبي جعفر محمّد بن أبي الفتح بن البلديّ للمستنجد باللَّه

- ‌ثمّ ملك بعده ولده المستضيء أبو محمّد الحسن بن المستنجد باللَّه

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة ظهير الدّين أبي بكر منصور بن أبي القاسم نصر بن العطّار

- ‌ثمّ ملك بعده ابنه الإمام الناصر لدين الله أبو العبّاس أحمد بن المستضيء بأمر الله

- ‌شرح حال الوزارة في أيّامه

- ‌وزارة جلال الدين أبي المظفّر عبيد الله

- ‌وزارة معزّ الدين سعيد بن عليّ بن جديدة الأنصاريّ

- ‌وزارة مؤيّد الدين أبي المظفّر محمّد ابن أحمد بن القصّاب

- ‌وزارة السيّد نصير الدين ناصر بن مهديّ العلويّ الرازيّ للناصر

- ‌وزارة مؤيّد الدين محمّد بن عبد الكريم برز [2] القمّي للناصر

- ‌ثمّ ملك بعده ولده أبو نصر محمّد الظاهر بأمر الله ابن الناصر لدين الله

- ‌شرح حال الوزارة في أيامه

- ‌ثمّ ملك بعده ولده أبو جعفر المنصور المستنصر باللَّه

- ‌شرح حال الوزارة في أيامه

- ‌وزارة نصير الدّين أبي الأزهر أحمد ابن محمّد بن الناقد

- ‌ثمّ ملك بعده ولده أبو أحمد عبد الله المستعصم باللَّه

- ‌شرح حال الوزارة في أيامه

- ‌وزارة مؤيّد الدين أبي طالب محمد بن أحمد بن العلقميّ

الفصل: ‌ ‌[مقدمة المؤلف] بسم الله الرّحمن الرّحيم 1 الحمد للَّه مسبّب الأسباب،

[مقدمة المؤلف]

بسم الله الرّحمن الرّحيم 1 الحمد للَّه مسبّب الأسباب، ومفتّح الأبواب. مقدّر الأمور، ومدبّر الدهور.

واجب الوجود، وخالق الأخلاق والجود. مفيض العقل. وواهب الكلّ. أقرّ أنه المالك وأنّ الوجود مملوك لعظمته. وأشهد أنه الفاطر. وأن الغيب غير مستور لحكمته. وأعوذ بجلال عزّه من ذلّ الحجاب، وبفضل جوده من نقاش الحساب، وبخافي علمه ممّا في الكتاب من العذاب، وأصلي على النّفوس العلويّة المطهّرة من الأدناس، وعلى الأجسام الأرضيّة المنزّهة عن الأرجاس. وأخصّ من بينهم بأفضل الصلوات الزاكيات، وأكمل التحيّات الناميات، من نادى والألسن حداد، وأرشد والأكباد غلاظ والقلوب جلاد- محمّدا النبيّ الأميّ ذا التأييدات الإلهيّة، والتأكيدات الجلاليّة، وآله الطيّبين وأصحابه الصالحين، الذين كانوا صدّقوه وقد أرسل، ونصروه وقد خذل، ما سمح جواد ووري زناد.

وبعد، فإن أفضل ما نظر فيه خواصّ الملوك، وسلكوا إليه أفضل السّلوك بعد نظرهم في أمر الأمّة، وقيامهم فيما استودعوه بالحجّة، هو النظر في العلوم، والإقبال على الكتب التي صدرت عن شرائف الفهوم، فأمّا فضيلة العلم فظاهرة ظهور الشمس عريّة من الشّكّ واللّبس، فمما جاء من ذلك في التنزيل قوله تعالى:

هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ 39: 9 [1]، وممّا جاء في الحديث- صلوات الله وسلامه على من نسب إليه-:«إن الملائكة لتضع [2] أجنحتها لطالب العلم» . وأما فضيلة الكتب فقد قالوا: إن الكتاب هو الجليس الّذي لا ينافق، ولا يملّ ولا يعاتبك إذا جفوته، ولا يفشي سرّك. وقال المهلّب [3] لبنيه: يا بنيّ: إذا

[1] سورة الزّمر، الآية/ 9/.

[2]

تضع: تخفض، وتضع أجنحتها: كناية عن التواضع إكراما لطالب العلم.

[3]

هو المهلّب بن أبي صفرة كان أميرا على البصرة لمصعب بن الزبير. حارب الخوارج.

تولّى على خراسان لعبد الملك كان حكيما ورجل قيادة وسياسة وفضل. توفي 83 هـ.

ص: 11

وقفتم في الأسواق فلا تقفوا إلا على من يبيع السلاح، أو يبيع الكتب.

وكان الفتح بن خاقان [1] إذا كان جالسا في حضرة المتوكّل، وأراد أن يقوم إلى المتوضّأ، أخرج من ساق موزته كتابا لطيفا، فلا يزال يطالعه في ممرّه وعوده فإذا وصل إلى الحضرة أعاده إلى ساق موزته.

أرسل بعض الخلفاء في طلب بعض العلماء ليسامره، فلما جاء الخادم إليه وجده جالسا وحواليه كتب، وهو يطالع فيها: فقال له: إن أمير المؤمنين يستدعيك قال: قل له: عندي قوم من الحكماء أحادثهم، فإذا فرغت منهم حضرت. فلمّا عاد الخادم إلى الخليفة وأخبره بذلك، قال له: ويحك! من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عنده؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما كان عنده أحد! قال: فأحضره الساعة كيف كان. فلما حضر ذلك العالم، قال له الخليفة: من هؤلاء الحكماء الذين كانوا عندك؟ قال: يا أمير المؤمنين:

لنا جلساء ما نملّ حديثهم

أمينون مأمونون غيبا ومشهدا

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى

ورأيا وتأديبا ومجدا وسؤددا

فإن قلت: أموات. فلم تعد أمرهم

وإن قلت: أحياء. فلست مفندا

(طويل) فعلم الخليفة أنه يشير بذلك إلى الكتب، ولم ينكر عليه تأخره.

وقال الجاحظ: دخلت على محمّد بن إسحاق [2] أمير بغداد، في أيام ولايته وهو جالس في الديوان، والناس مثول بين يديه كأن على رءوسهم الطير، ثم دخلت إليه بعد مدّة وهو معزول، وهو جالس في خزانة كتبه، وحواليه الكتب والدفاتر والمحابر والمساطر. فما رأيته أهيب منه في تلك الحال!.

وقال المتنبي:

أعزّ مكان في الدّنا سرج سابح

وخير جليس في الزّمان كتاب

(طويل)

[1] أديب وشاعر كان صاحبا ونديما ووزيرا للخليفة المتوكّل، وقتل معه 247 هـ.

[2]

هو محمد بن إسحاق الصيمريّ نديم الخليفة المتوكّل، كان أديبا وشاعرا ظريفا، توفّي 275 هـ.

ص: 12

والعلم يزيّن الملوك أكثر ممّا يزين السّوقة، وإذا كان الملك عالما صار العالم ملكا وأصلح ما نظر فيه الملوك ما اشتمل على الآداب السلطانيّة، والسّير التاريخية المطويّة على ظرائف الأخبار، وعجائب الآثار، على أنّ الوزراء كانوا قديما يكرهون أنّ الملوك يقفون على شيء من السّير والتواريخ، خوفا أن يتفطّن الملوك إلى أشياء لا يحبّ الوزراء أن يتفطّن لها الملوك.

طلب المكتفي [1] من وزيره كتبا يلهو بها؟ ويقطع بمطالعتها زمانه، فتقدم الوزير إلى النوّاب بتحصيل ذلك، وعرضه عليه قبل حمله إلى الخليفة، فحصلوا شيئا من كتب التاريخ، وفيها شيء مما جرى في الأيام السالفة من وقائع الملوك، وأخبار الوزراء ومعرفة التحيّل في استخراج الأموال، فلمّا رآه الوزير، قال لنوّابه والله إنكم أشدّ الناس عداوة لي، أنا قلت لكم: حصّلوا له كتبا يلهو بها، ويشتغل بها عنّي وعن غيري فقد حصّلتم له ما يعرّفه مصارع الوزراء، ويوجده الطريق إلى استخراج المال، ويعرّفه خراب البلاد من عمارتها! ردّوها، وحصّلوا له كتبا فيها حكايات تلهيه، وأشعار تطربه.

وكانوا يكرهون أيضا أن يكون في الخلفاء والملوك فطانة ومعرفة بالأمور ولما مات المكتفي، عزم وزيره على مبايعة عبد الله بن المعتزّ [2] ، وكان عبد الله فاضلا لبيبا محصلا، فخلا به بعض عقلاء الكتاب وقال له: أيّهذا الوزير: هذا الرأي الّذي قد رأيته في مبايعة ابن المعتز ليس بصواب، قال الوزير: كيف ذلك؟

قال: أيّ حاجة لك أن تجلس على سرير الخلافة من يعرف الذّراع والميزان والأسعار، ويفهم الأمور، ويعرف القبيح من الحسن، ويعرف دارك وبستانك وضيعتك؟ الرأي أن تجلس صبيّا صغيرا فيكون اسم الخلافة له، ومعناها لك، فتربّيه إلى أن يكبر، فإذا كبر عرف لك حقّ التربية، وتكون أنت قد قضيت أوطارك

[1] هو علي أبو محمّد بن المعتضد، الخليفة السابع عشر من خلفاء بني العبّاس، بويع بالخلافة سنة/ 289/ هـ.

[2]

عبد الله بن المعتزّ: أمير عباسيّ شاعر وأديب صاحب كتاب «البديع» ولي الخلافة يوما وليلة ومات خنقا سنة/ 296/ هـ.

ص: 13

مدّة صغره، فشكره الوزير على ذلك، وعدل عن عبد الله بن المعتزّ إلى المقتدر، وعمره يومئذ ثلاث عشرة سنة.

وكان بدر الدين لؤلؤ [1] صاحب الموصل- رحمه الله أكثر ما يجري في مجلس أنسه إيراد الأشعار المطربة، والحكايات الملهية، فإذا دخل شهر رمضان أحضرت له كتب التواريخ والسّير، وجلس الزّين الكاتب وعزّ الدين المحدّث يقرءان عليه أحوال العالم.

وهذا التقرير يستدعي شرح حال: وذلك أنّي حين أحلّني حكم القضاء بالموصل الحدباء، حللتها غير متعرض لوبلها أو طلّها، ودخلتها كما قال عزّ من قائل: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ من أَهْلِها 28: 15 [2] ، وكنت بنيت عزمي على المقام فيها بقدر ما ينكسر البرد، ثم التوجّه بعد ذلك إلى تبريز، فحين استقررت بالموصل، بلغني من عدّة جهات مختلفة، ومن ذوي آراء غير مؤتلفة، غزارة فضل صاحبها الأعظم المولى المخدوم الملك المعظّم، أفضل الملوك وأعظمهم، وأكرم الحكماء وأحلمهم، فخر الملّة والدين، الممنوح بخصائص لو كانت للدهر لما شكا صرفه حر ولما مسّ أحدا منه ضرّ، ولو كانت للبحر لما كان ماؤه ملحا أجاجا، ولا خاف راكبه منه أمواجا، ولو ظفرت بها الأقمار، لما لحقها السّرار، عيسى [3] الّذي أحيا ميت الفضائل، ونشر طيّ الفواضل، وأقام سوق المكارم في عصر كسدت فيه سوقها وأنهض مقعدات المحاسن بعد ما عجزت عن حمل أجسامها سوقها، وذبّ عن الأحرار في زمان هم فيه أقلّ من القليل، وملأ أيديهم من عطائه بأياد واضحة الغرّة والتّحجيل وأفاء عليهم ظلّ رأفة لا ينتقل، وخفض لهم جناح رحمة فما بيني يتفضّل عليهم ويتطوّل، كلّما ازداد دولة وتمكينا

[1] بدر الدين لؤلؤ: أتابك الموصل زمن المستعصم قبل واليها عيسى بن إبراهيم، الّذي لازمه ابن طباطبا.

[2]

سورة القصص، الآية 15.

[3]

عيسى بن إبراهيم والي الموصل، قدّم إليه ابن طباطبا كتابه هذا، «الفخري في الآداب السلطانية» الّذي فرغ منه عام/ 701/ هـ. وسرار الشهر: آخر ليلة فيه.

ص: 14

زاد تواضعا ولينا، وكلّما بلغ من الملك غاية، رفع للكرم راية ابن إبراهيم أعزّ الله نصره، وأنفذ نهيه وأمره، الّذي أنسى ذكر الأجواد، ورزانة الأطواد وشجاعة الآساد:

للشّمس فيه وللرّياح وللسحاب

وللبحار وللأسود شمائل

(كامل) الّذي هو في جبهة هذا الدهر غرّة، وفي قلادته درّة لا تدانيها في الدنيا درّة الّذي صدّق أخبار الماضين، وحقق ما نسخ من مآثر الأوّلين.

وقد قال ابن الرومي:

أظنّ بأنّ الدهر ما زال هكذا

وأنّ حديث الجود ليس له أصل

وهب أنّه كان الكرام كما حكوا

أما كان فيهم واحد وله نسل؟!

(طويل) فلو شاهد لصدّق ما سمع من أخبار أهل الكرم، ولما اختلجت بين جنبيه عوارض التّهم، الحاكم الّذي إذا سلّط ذهنه الشريف، وفكره اللطيف، على القضايا الديوانيّة، والأمور السلطانية ذلّت له الصعاب، ولانت له الصّم الصّلاب، وظهرت له الخفايا، وتعذّر أن يقال: في الزوايا خبايا.

أما قوّة العدل عنده فسليمة، قواعدها لديه قويمة، فلا تجزعنّك هيبته المرهوبة فإنّ وراءها رأفة بالضعيف، ورقة على الفقير، وجبرا للكسير.

وله من الصّفح الجميل عوائد

أسر الطليق بها، وفكّ العاني [1]

(كامل) ولقد حضرت يوما مجلسه الرفيع وكان يوم غيث، وقد تقدم بصيانة الباب فلما كثر الغيث، قال للحجّاب: من حضر الباب وله حاجة فعرّفونا بها، ثم قال:

إن أحدا لا يحضر في مثل هذا الوقت إلّا لضرورة، ولا يجوز أن يردّ خائبا، فباللَّه هل يأتي في هذا الكتاب الّذي يريد أن يكون مشتملا على محاسن الآثار، إلا ما هو

[1] العاني: الأسير المعنّى.

ص: 15

من جنس هذه الحكاية؟.

وأما قوة السّياسة عنده فعظيمة، لم تعترضها هضيمة [1] ، فلا تغرنكم رقته وابتسامه، فإنّ وراء ذلك صرامة يخضع لها الأسود، وشهامة يحذرها السيّد والمسود.

هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا

على الدّرّ، واحذره إذا كان مزبدا

(طويل) وأما قوّة الذكاء والتيقّظ فهو فيها كما قال المتنبّي:

تعرف في عينه حقيقته

كأنه بالذكاء مكتحل

أشفق عند اتقاد فكرته

عليه منها، أخاف يشتعل

(منسرح) وأمّا قوّة العقل الغزير، والتمييز الصحيح، فإنّي لأظنّ أنّ عقلاء الملوك الماضين لو عاشوا وشاهدوه لتعلّموا منه كيف يساس الجمهور، وكيف تدبّر الأمور وأما قوّة الكرم الّذي تجاوز الحدّ وخرج، فحدّث عن البحر ولا حرج، فلو عاش الكرام الذين ضربت بهم الأمثال وعدمت لهم النظراء والأمثال، لتعلّموا منه غوامض الكرم ولتلقّفوا منه محاسن الشيم، ولو أنصفت لتركت وصف هذه القوّة من قواه عجزا عن الإحاطة بكنه وصفها، وقصورا عن القيام بواجب وصفها، ولكنّي أقول بحسب الجهد والطاقة: إن احتقاره للدنيا احتقار الأولياء، واستصغاره لها استصغار الزّهاد:

فلو جاد بالدنيا وثنّى بضعفها

لظنّ من استصغاره أنّه ضنّا

(طويل) يعطي عطاء من يبقى الذّكر ويحييه، وينفد المال ويفنيه.

أعاذل، إنّ الجود ليس بمهلكي

ولا يخلد النفس الشحيحة لومها [2]

وتذكر أخلاق الفتى، وعظامه

مغيّبة في التّرب بال رميمها

(طويل)

[1] الهضيمة: المظلمة.

[2]

اللّوم: اللّؤم، بتليين الهمزة جوازا، وهو ضدّ الكرم.

ص: 16

بهمة نالت السماء، وجاوزت الجوزاء، ومن هناك حصل له الأنس بعلم النجوم فإنه أخذ علمها بالارتقاء إليها والاقتراب، لا بالحساب والأصطرلاب [1] ، بلغ السماء علوّا فشافهته بأسرارها كواكبها، وفرع [2] الأفلاك سموّا فحدثته بأخبارها، مشارقها ومغاربها:

له همم لا منتهى لكبارها

وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر

(طويل) لا تستقرّ في خزائنه نفائس أمواله، وليس لها بيت يحفظها سوى بيوت سؤّاله [3] :

إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا

ظلّت إلى طرق العلياء تستبق

لا يألف الدّرهم المنقوش صرّتنا

لكن يمرّ عليها وهو منطلق

(بسيط) لا يفعل السّكر في كرمه إلا كما يفعل الصّحو في إمطار ديمه [4]

يعيد عطايا سكره عند صحوه

ليعلم أنّ الجود منه على علم

ويسلم في الإحسان من قول قائل

تكرّم لمّا خامرته [5] ابنة الكرم

(طويل) ومن أسرار كرمه أنّه منزّه عن التّبذير، وإن كان أكثر من الكثير لأنه موضوع في أجلّ مواضعه، وواقع في أفضل مواقعة، فمتى تعرّض آمل أو عنّ سائل [6] ، بادر إلى إرفاده (7) مبادرة السيل إلى وهاده.

[1] الأصطرلاب: آلة فلكية اخترعها العرب لرصد النجوم والأفلاك.

[2]

فرع الأفلاك: صعد إليها وارتقاها.

[3]

السؤال: جمع سائل، وهو طالب المعروف والإحسان.

[4]

الدّيم: جمع ديمة، وهي السحابة الماطرة.

[5]

خامرته: خالطت عقله، ابنة الكرم: كناية عن الخمرة.

[6]

عنّ سائل: طرق محتاج.

ص: 17

عشق المكارم فاستهام بذكرها

والمكرمات قليلة العشّاق

وأقام سوقا للثناء، ولم تكن

سوق الثناء تعدّ في الأسواق

فاذكر صنائعه فلسن صنائعا

لكنهنّ قلائد الأعناق

والثم أنامله فلسن أناملا

لكنّهن مفاتح الأرزاق

(كامل) وكأني بك أيها الناظر في هذا الكتاب قد استعظمت ما سمعت، فإن عرض لك الشّكّ فانظر أعيان هذا العصر، تجدهم يناقشون على الذرّة [1] ، وتجده لا يلتفت إلى الدّرّة، وتجدهم يحرصون على اقتناء الذّخائر، وتجده لا يحرص إلّا على الذكر السّائر والصيّت الطائر، وتجدهم قد شغفتهم محبّة الأولاد، وتجده قد شغفته محبّة السؤّال والقصّاد، وتجدهم يهربون من المغارم [2] وتجده يعدّها من أفضل المغانم ثمّ ارجع البصر تجد المدائح عندهم كاسدة، وتجدها عنده نافقة، وتأمّل تبصر المكارم لديهم جامدة وتبصرها لديه دافقة، وانظر بابه تجده عامرا بوفود الثناء غاصّا بالأدباء والشّعراء والفضلاء والفصحاء.

يسقط الطير حيث يلتقط الحبّ

وتغشى منازل الكرماء [3]

(خفيف) وتاللَّه ما الدنيا إلا دنياه، ولا العيش إلا عيشه الّذي أعطاه الله.

ما العيش أنّ يمسي الفتى

متشبّعا ضخم الجزاره

العيش أنّ يشجي الفتى

أعداءه، ويعزّ جاره

حتى يخاض [4] ويرتجى

ويرى له نشب وإ

ويروح إمّا للكتابة

سعيه، أو للإماره

[1] يناقشون على الذّرة: كناية عن البخل حتّى بالقليل كالذرّة.

[2]

المغارم: التكاليف والخسائر. وهنا: الإنفاق.

[3]

البيت لبشّار بن برد في مدح عقبة بن سلم بن قتيبة، ورواية الديوان:

يسقط الطير حيث ينتشر الحبس

ب وتغشى منازل الكرماء

[4]

يخاض: يؤتى إليه ويقصد.

ص: 18

رجعنا إلى حكاية الحال، وإتمام المقال: فلفقت المقادير أن جرى ذكري بين يديه وعرض شيء من أمري عليه فلمح بذكاء قلبه، وصحّة حدسه من تلك الأنباء حقيقة حالي قبل اللّقاء، وتقدّم بالحضور في خدمته، فلما حضرت راعني ما شاهدت من كمال هيئته وراقني ما عاينت من جمال صورته، وشريف سيرته فكان أوّل ما أنشدته قول المتنبي:

وما زلت حتى قادني الشوق نحوه

يسايرني في كلّ ركب له ذكر

وأستعظم الأخبار قبل لقائه

فلما التقينا صغّر الخبر الخبر [1]

(طويل) ثمّ تابع من ألطافه ما غرس به ودّا، وجنى منه ثناء وحمدا، فرأيت أن أخدم حضرته بتأليف هذا الكتاب، ليكون تذكرة له، وتذكرة لي عنده، يذكرني به إذا غبت عن عالي جنابه، وانفصلت عن فسيح رحابه.

وهذا كتاب تكلّمت فيه على أحوال الدّول وأمور الملك، وذكرت فيه ما استظرفته من أحوال الملوك الفضلاء، واستقريته من سير الخلفاء والوزراء وبنيته على فصلين [2] :

فالفصل الأول تكلّمت فيه على الأمور السلطانية والسّياسات الملكيّة وخواص الملك التي يتميّز بها عن السّوقة [3] ، والتي تجب أن تكون موجودة أو معدومة فيه وما يجب له على رعيته وما يجب لهم عليه، ورصعت الكلام فيه بالآيات القرآنية والأحاديث النبويّة، والحكايات المستطرفة والأشعار المستحسنة.

والفصل الثاني: تكلّمت فيه على دولة من مشاهير الدول التي كانت طاعتها عامّة، ومحاسنها تامّة، ابتدأت فيه بدولة الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان

[1] صغر الخبر الخبر: كذّب الواقع ما يروى من الكلام، والتجربة أصدق.

[2]

بعض الطبعات لم تلتزم بتقسيم المؤلف كتابه إلى فصلين، ومنها هذه الطبعة التي اعتمدنا عليها في تحقيق الكتاب وسنحاول التزام خطّة المؤلّف وتسمية أجزاء الفصل الثاني بأسماء الدّول التي تناولها المؤلّف بالتأريخ. ع. م م.

[3]

السّوقة: عوامّ الناس وأخلاطهم، ونقيضهم الملوك والأمراء.

ص: 19

وعليّ- رضي الله عنهم على الترتيب الّذي وقع، ثمّ بالدولة التي تسلّمت الملك منها وهي الدولة الأمويّة، ثم بالدولة التي تسلّمت الملك منها وهي الدولة الأموية، ثم بالدولة التي تسلمت الملك منها، وهي الدولة العبّاسيّة ثمّ بالدول التي وقعت في أثناء الدّول الكبار، كدولة بني بويه، وكدولة بني سلجوق وكدولة الفاطميين بمصر على وجه الإيجاز، فإنّها دول وقعت في أثناء دولة بني العبّاس ولكنها لم تكن طاعتها عامة، فأتكلّم على دولة دولة بمجموع ما حصل في ذهني من الهيئة الاجتماعية التي أفادتنيها مطالعة السّير والتواريخ، فأذكر كيف كان ابتداؤها وانتهاؤها، وطرفا ممتعا من محاسن ملوكها، وأخبار سلاطينها، فإن شذّ شيء من أحوالها عن ذهني، واحتجت إلى إثباته: من حكاية ظريفة، أو بيت شعر نادر، أو آية أو حديث نبوي، أخذته من مظانّه، ثم إذا ذكرت دولة فدولة تكلّمت على كلّيات أمورها، ثم ذكرت واحدا واحدا من ملوكها، وما جرى في أيّامه من الوقائع المشهورة والحوادث المأثورة، فإذا انقضت أيّام ذلك الملك، ذكرت وزراءه واحدا واحدا وظرائف ما جرى لهم، فإذا انقضت أيام الملك ووزرائه ابتدأت بالملك الّذي بعده وبما جرى في أيّامه، وبسير وزرائه كذلك، إلى آخر الدّولة العبّاسية.

والتزمت فيه أمرين: أحدهما: ألّا أميل فيه إلّا مع الحقّ، ولا أنطق فيه إلّا بالعدل، وأن أعزل سلطان الهوى، وأخرج من حكم المنشأ والمربى، وأفرض نفسي غريبا منهم، وأجنبيّا بينهم. وثانيهما: أن أعبّر عن المعاني بعبارات واضحة تقرب من الأفهام لينتفع بها كلّ أحد، عادلا عن العبارات المستصعبة التي يقصد فيها إظهار الفصاحة، وإثبات البلاغة، فطالما رأيت مصنّفي الكتب قد اعترضتهم محبّة إظهار الفصاحة والبلاغة فخفيت أغراضهم، واعتاصت معانيهم، فقلّت الفائدة بمصنّفاتهم من ذلك كتاب القانون في الطبّ لأبي عليّ الحسين [1] بن سينا البخاريّ، فإنّه حشاه بالعبارات الغامضة، والتّراكيب المستغلقة، فبطل غرضه من

[1] هو الحسين بن عبد الله أبو علي بن سينا، نشأ وتعلّم في بخارى وإليها نسب، له حوالي مائة تصنيف أشهرها القانون في الطبّ، وهو عالم وفيلسوف وطبيب وشاعر متعدّد الجوانب. توفي/ 429/ هـ.

ص: 20

الانتفاع بكتابه، ولذلك ترى عامّة الأطباء قد عدلوا عن كتابه إلى «الملكي» السّهل العبارة، المفهم الإشارة.

وهذا كتاب يحتاج إليه من يسوس الجمهور، ويدبّر الأمور، وإن أنصفه النّاس أخذوا أولادهم بتحفظه، وتدبّر معانيه، بعد أن يتدبّروه هم، فما الصغير بأحوج إليه من الكبير، ولا الملك العامّ الطاعة، بأحوج إليه من ملك مدينة ولا ذوو الملك بأحوج إليه من ذوي الأدب، فإنّ من ينصّب نفسه لمفاوضة الملوك، ومجالستهم ومذاكرتهم، يحتاج إلى أكثر ممّا في هذا الكتاب، فعلى أقلّ الأقسام لا يسعه تركه.

وهذا الكتاب إن نظر بعين الإنصاف رئي أنفع من «الحماسة» التي لهج الناس بها، وأخذوا أولادهم بحفظها فإنّ «الحماسة» [1] لا يستفاد منها أكثر من الترغيب في الشّجاعة والضّيافة وشيء يسير من الأخلاق في الباب المسمّى بباب الأدب، والتأنّس بالمذاهب الشّعرية. وهذا الكتاب يستفاد منه هذه الخصال المذكورة ويستفاد منه قواعد السياسة، وأدوات الرّئاسة. فهذا فيه ما في «الحماسة» ، وليس في الحماسة، ما فيه. وإنّه ليفيد العقل قوّة، والذّهن حدّة، والبصيرة نورا، وهو للخاطر الذكيّ بمنزلة المسنّ الجيّد للفولاذ، وهو أيضا أنفع من «المقامات» [2] التي الناس فيها معتقدون، وفي تحفّظها راغبون، إذ «المقامات» لا يستفاد منها سوى التمرّن على الإنشاء، والوقوف على مذاهب النظم والنثر. نعم، وفيها حكم وحيل وتجارب، إلّا أنّ ذلك ممّا يصغّر الهمّة، إذ هو مبنيّ على السّؤال والاستجداء والتحيّل القبيح على النّزر الطفيف، فإن نفعت من جانب، ضرت من جانب وبعض الناس تنبهوا على هذا من المقامات الحريرية والبديعيّة، فعدل ناس إلى «نهج البلاغة» من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- عليه السلام

[1] كتاب «الحماسة» لأبي تمّام الطائي الشاعر العبّاسي المشهور المتوفى ترجيحا/ 231/ هـ، قيل عنه: إنّه في حماسته أشعر منه في شعره، إذ كان جيّد الاختيار من أشعار العرب.

[2]

المقامات: شكل قديم من أشكال الأدب له شهرته، ومخترعه الأوّل بديع الزمان الهمذاني واسمه أحمد بن الحسين وكنيته أبو الفضل. توفي عام/ 398/ هـ.

ص: 21

فإنه الكتاب الّذي يتعلّم منه الحكم والمواعظ، والخطب والتوحيد والشجاعة والزهد وعلوّ الهمّة، وأدنى فوائده الفصاحة والبلاغة، وعدل الناس إلى «اليمني» للعتبي [1] ، وهو كتاب صنفه مؤلفه ليمين الدولة محمود بن سبكتكين [2] يشتمل على سير جماعة من الملوك بالبلاد الشرقية، عبر فيه بعبارات حظها من الفصاحة وافر وصاحبها إن لم يكن ساحرا فهو كاتب ماهر، والعجم مشغوفون به مجدّون في طلبه وهو لعمري كتاب يشتمل على ظرائف حكم، وبدائع سير، مع ما فيه من فنون البلاغة، وأنواع الفصاحة، ولعلّ قائلا أن يقول: لقد بالغ في وصف كتابه، وحشا ما شاء في جرابه، والمرء مفتون بابنه وشعره، فإن اعتراه ريب فليتأمّل الكتب المصنّفة في هذا الفنّ، فلعله لا يرى فيها كتابا أجمع للمعنى الّذي قصد به من هذا الكتاب.

وهو أعزّ الله نصره [3] ، وسر بدوام السعادة سرّه، قد أغناه الله بالذّهن القاهر والفضل الباهر، عن هذا الكتاب وعن أمثاله، ولكنّ مهامّه الشّريفة ربّما أضجرته وأنسته، فإذا روّح فكره الشريف بالنظر فيه دفع به الملال، وتذكّر به ما أنسته الأشغال.

ومن ألطاف الله تعالى أسأل ألّا يخلي هذا الكتاب من فائدتين، إحداهما تخصّني: وهي أن يقع عنده بموقع الاستصواب، فأبرأ من عهدة الخجل، والأخرى تخصّه: وهي ألا يعدمه الانتفاع به في القول والعمل، إنه ولي كلّ نعمة ومسدي [4] كلّ عارفة.

[1] أبو نصر العتبيّ: مؤرخ عاش في خراسان له كتاب (اليمنيّ) في تاريخ محمود بن سبكتكين الغزنويّ. توفي/ 1036/ م.

[2]

محمود بن سبكتكين الغزنويّ لقبه يمين الدولة هو ثالث ملوك الغزنويين وأشهرهم، كتب سيرته المؤرخ العتبي المذكور آنفا، توفي/ 1030/ م.

[3]

المقصود بالدعاء عيسى بن إبراهيم أمير الموصل الّذي قدّم إليه المؤلف ابن طباطبا كتابه «الفخري في الآداب السلطانيّة» عام/ 701/ هـ.

[4]

أسدى العارفة أو المعروف: قدّم المعروف إلى غيره.

ص: 22