الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يلاطف أصحاب المقتدر ويتودّد إليهم ويهاديهم، وكان يحبّونه ويتعصّبون له دائما ويصفونه عند المقتدر فاتّفق أن حصل فتق [1] من الفتوق ببعض الجهات فجهّز المقتدر جيشا وأرسله صحبة بعض أمرائه إلى تلك الجهة، ثمّ كان المقتدر شديد التطلّع إلى أخبار هذا الجيش، فأرسل ابن الخصيب طيورا صحبة بعض ثقاته مع الجيش، وقال لصاحبه: سرّح كلّ يوم طيورا وعليها الأخبار ساعة فساعة، فكانت ترد الأخبار على الطّيور إلى أحمد بن عبيد الله بن الخصيب فيعرضها على المقتدر ساعة بعد ساعة حتى إن المقتدر لم يفته من أمر الجيش شيء فتعجب المقتدر من ذلك وقال: من أين يعلم أحمد بن الخصيب أخبار هذا الجيش؟ فعرف الصّورة وقيل له: من تسمو همّته إلى مثل هذا وليس له تعلّق بهذه القضيّة، فكيف يكون جدّه واجتهاده إذا صار وزيرا؟ فاستوزره.
قالوا: وكان أبو العبّاس أحمد بن عبيد الله بن الخصيب عفيفا متورّعا من مال السّلطان والرعيّة، مجانبا للخيانة، محافظا على الأمانة. ثمّ ضعف أمره وانحرفت عنه السيّدة أمّ المقتدر- وكان كاتبها قبل الوزارة- فعزل وقبضت أمواله [2] وذلك في سنة أربع عشرة وثلاثمائة.
وزارة أبي عليّ محمّد بن عليّ بن مقلة للمقتدر
هو صاحب الخطّ الحسن المشهور، الّذي تضرب بحسنة الأمثال. وهو أوّل من استخرج هذا الخطّ ونقله من الوضع الكوفيّ إلى هذا الوضع، وتبعه بعده ابن البوّاب [3] . كان في ابتداء أمره يخدم في بعض الدّواوين في كلّ شهر بستّة دنانير ثمّ إنّه تعلق بأبي الحسن بن الفرات الوزير واختصّ به، وكان ابن الفرات كالبحر سماحا وجودا، فرفع من قدره وأعلى من شأنه، فمكث بين يديه يعرض عليه رقاعا في مهمات الناس، وينتفع بسبب ذلك، وكان ابن الفرات يأمر بالتحصيل
[1] الفتق: هنا، العصيان والخروج على الطاعة. التمرّد.
[2]
قبضت أمواله: صودرت مصادرة.
[3]
ابن البواب: عليّ بن هلال البغداديّ، أبدع في الخطّ العربيّ بعد ابن مقلة وكان من ابتداعه الخط الريحانيّ والمحقّق. توفي حوالي/ 422/ هـ.
من هذه الجهة إيثارا لنفعه، فما زال على ذلك حتى علت حاله وكثر ماله، ولمّا ولي ابن الفرات الوزارة الثانية تمكن ابن مقلة في دولته، ونبعت حاله وعرض جاهه، ثم إنّ الشيطان نزع بينه وبين أبي الحسن عليّ بن الفرات فاستوحش كلّ منهما من صاحبه، فكفر ابن مقلة إحسان ابن الفرات، ودخل في جملة أعدائه والسّعاة عليه، حتّى جرت النكبة على ابن الفرات، فلمّا رجع ابن الفرات إلى الوزارة قبض عليه وصادره على مائة ألف دينار أدّتها عنه زوجته، وكانت ذات مال طائل، وكانت لابن مقلة يد طولى في الكتابة والإنشاء، وكانت توقيعاته غير مذمومة في فنّها، وله شعر فمنه:
جرّبني الدّهر على صرفه [1]
…
فلم أخر [2] عند التّصاريف
ألفت يوميه [3] ويا ربّما
…
يؤلف شيء غير مألوف
(سريع) حدّث أبو عبد الله أحمد بن إسماعيل المعروف بزنجيّ كاتب ابن الفرات قال لما نكب ابن مقلة وحبس لم أدخل إليه في محبسه، ولا كاتبته ولا توجعت له، على ما بيني وبينه من المودة والصّداقة، خوفا من ابن الفرات. فلمّا طالت به المحنة كتب إليّ رقعة فيها:
ترى حرمت [4] كتب الأخلاء بينهم
…
أبن لي، أم القرطاس [5] أصبح غاليا؟
فما كان لو ساءلتنا كيف حالنا
…
وقد دهمتنا نكبة هي ما هيا؟
صديقك من راعاك في كلّ شدّة
…
وكلّ تراه في الرّخاء مراعيا
فهبك عدوّي لا صديقي فإنني
…
رأيت الأعادي يرحمون الأعاديا
(طويل)
[1] صرف الدّهر وصروفه وتصاريفه: أحداثه ومصائبه.
[2]
لم أخر: لم أخيّر بل أجبرت إجبارا.
[3]
يوميه: قصد بها يوم البؤس ويوم النعيم.
[4]
حرمت: أصبحت من المحرّمات.
[5]
القرطاس: ورق الكتابة.
ومن شعره ما كتب به إلى ولده وقد مرض:
لقّاك ربّك صحّة وسلامة
…
ووقاك بي من طارق الأدواء
ذكرت شكاتك لي وكأسي في يدي
…
فمزجتها دمعي مكان الماء
(كامل) ومن شعره:
لست ذا ذلّة إذا عضّني الدّهر
…
ولا شامخا إذا واتاني
أنا نار في مرتقى نفس الحاسد
…
، ماء جار مع الإخوان
(خفيف) استوزره المقتدر وخلع عليه خلع الوزارة في سنة ستّ عشرة، واستقلّ بأعباء الوزارة أمرا ونهيا، وبذل فيها ما مبلغه خمسمائة ألف دينار، ثمّ عزل وقبض عليه ثم أعيد. وما زال تتقلّب به الأحوال حتى استوزره الرّاضي، ثمّ جرت خطوب أوجبت أنّ الرّاضي حبسه بداره وضيّق عليه، وسعى به أعداؤه إلى الرّاضي، وخوفوه من غائلته فقطع يده اليمنى ومكث في الحبس مدّة مقطوع اليد، وكان ينوح على يده ويقول: يد كتبت بها كذا وكذا مصحفا، وكذا وكذا حديثا من أحاديث الرّسول- صلى الله عليه وآله وسلم ووقّعت إلى شرق الأرض وغربها تقطع كما تقطع أيدي اللّصوص؟.
ومن شعره يشير إلى قطع يده.
ما مللت الحياة لكن توثّقت
…
بأيمانهم فبانت يميني
ثمّ أحسنت ما استطعت بجهدي
…
حفظ أرواحهم فما حفظوني
ليس بعد اليمين لذّة عيش
…
يا حياتي بانت يميني [1] فبيني
وفي ذلك يقول بعض الشّعراء: (خفيف)
لئن قطعوا إحدى يديه مخافة
…
لأقلامه لا للسّيوف الصّوارم
فما قطعوا رأيا إذا ما أجاله
…
رأيت الرّدى بين اللها [2] والغلاصم [3]
(طويل)
[1] بانت يمينه: قطعت يده اليمنى. بان: اغترب وبعد.
[2]
اللها: جمع لهاة، وهي لحيمة معترضة في الحلق تعرف بلسان المزمار.
[3]
الغلاصم: ما بين الرأس والعنق من لحم الرقبة.