الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيل: إنّ هارون حجّ ومعه يحيى بن خالد بن برمك، ومعه ولداه الفضل وجعفر فلمّا وصلوا إلى مدينة الرّسول- صلوات الله عليه- جلس الرشيد ومعه يحيى فأعطيا الناس، وجلس الأمين ومعه الفضل بن يحيى فأعطيا الناس، وجلس المأمون ومعه جعفر فأعطيا الناس، فأعطوا في تلك السنة ثلاث أعطيات ضربت بكثرتها الأمثال، وكانوا يسمونه عام الأعطيات الثلاث، وأثرى الناس بسبب ذلك.
وفي ذلك يقول الشّاعر:
أتانا بنو الآمال من آل برمك
…
فيا طيب أخبار ويا حسن منظر
لهم رحلة في كلّ عام إلى العدا
…
وأخرى إلى البيت العتيق المستّر
إذا نزلوا بطحاء مكّة أشرقت
…
بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فتظلم بغداد وتجلو لنا الدجى
…
بمكة ما تمحو ثلاثة أقمر
فما خلقت إلّا لجود أكفّهم
…
وأقدامهم إلّا لأعواد منبر
إذا راض يحيى الأمر ذلّت صعابه
…
وناهيك من راع له ومدبّر
(طويل) كان يحيى يقول: ما خاطبني أحد إلا هبته حتّى يتكلم فإذا تكلم كان بين اثنتين إما أن تزيد هيبته، أو تضمحلّ. وكان يقول: المواعيد شباك الكرام يصيدون بها محامد الأحرار. كان يحيى إذا ركب يعدّ صررا في كلّ صرّة مائتا درهم يدفعها إلى المتعرّضين له.
سيرة ولده الفضل بن يحيى
كان الفضل من كرام الدنيا وأجواد أهل عصره. وكان قد أرضعته أمّ هارون الرشيد، وأرضعت أمّه الرّشيد، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:[1]
[1] مروان بن أبي حفصة: شاعر عباسي فحل، مجوّد لشعره، مدح الرشيد ومن قبله من الخلفاء العباسيين، واشتهر مدحه لمعن بن زائدة الشيبانيّ. توفي عام/ 181/ هـ.
كفى لك فخرا أنّ أكرم حرّة
…
غذتك بثدي والخليفة واحد
لقد زنت يحيى في المشاهد كلّها
…
كما زان يحيى خالدا في المشاهد
(طويل) ولّاه الرشيد خراسان فخرج إليه أبو الهول الشاعر مادحا. معتذرا من شعر كان هجاه به، فأنشده:
سرى نحوه من غضبة الفضل عارض
…
له لجة فيها البوارق والرّعد
وكيف ينام الليل ملق فراشه
…
على مدرج يعتاده الأسد الورد
وما لي إلى الفضل بن يحيى بن خالد
…
من الجرم ما يخشى على مثله الحقد
فجد بالرّضا لا أبتغي منك غيره
…
ورأيك فيما كنت عوّدتني بعد
(طويل) فقال له الفضل: لا أحتمل تفريقك بين رضاي وإحساني، وهما مقرونان فإن أردتهما معا وإلّا فدعهما معا، ثم وصله ورضي عنه.
حدّث إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: كنت قد ربّيت جارية حسنة الوجه وثقفتها وعلّمتها حتّى برعت، ثم أهديتها إلى الفضل بن يحيى، فقال لي:
يا إسحاق إن رسول صاحب مصر قد ورد إليّ يسألني حاجة أقترحها عليه، فدع هذه الجارية عندك فإنّني سأطلبها وأعلمه أني أريدها، فإنّه سوف يحضر إليك يساومك فيها، فلا تأخذ فيها أقلّ من خمسين ألف دينار، قال إسحاق: فمضيت بالجارية إلى منزلي، فجاء إليّ رسول صاحب مصر وسألني عن الجارية، فأخرجتها إليه، فبذل فيها عشرة آلاف دينار فامتنعت، فصعد إلى عشرين ألف دينار، فامتنعت، فصعد إلى ثلاثين ألفا، فما ملكت نفسي حتى قلت له: بعتك، وسلّمت الجارية إليه وقبضت منه المال، ثم إنني أتيت من الغد إلى الفضل بن يحيى، فقال لي:
يا إسحاق: بكم بعت الجارية؟ قلت بثلاثين ألف دينار، قال: ألم أقل لك لا تأخذ منه أقلّ من خمسين ألفا؟ قلت: فداك أبي وأمي والله ما ملكت نفسي منذ سمعت لفظة ثلاثين ألفا! فتبسّم ثمّ قال: إنّ رسول صاحب الروم قد سألني أيضا حاجة، وسأقترح عليه هذه الجارية وأدلّه عليك، فخذ جاريتك وانصرف إلى منزلك، فإذا
ساومك فيها فلا تأخذ منه أقلّ من خمسين ألف دينار فأخذت الجارية وانصرفت إلى منزلي، فأتاني رسول صاحب الروم وساومني في الجارية فطلبت خمسين ألفا، فقال: هذا كثير ولكن تأخذ منّي ثلاثين ألفا، فو الله ما ملكت نفسي منذ سمعت لفظة ثلاثين ألفا حتى قلت له: قد بعتك! ثم قبضت المال منه وسلّمت الجارية إليه، ومضيت من الغد إلى الفضل بن يحيى، فقال: ما صنعت؟ وبكم بعت الجارية يا إسحاق؟ قلت: بثلاثين ألفا، قال: سبحان الله! ما أوصيتك ألا تأخذ فيها أقلّ من خمسين ألفا، قلت: جعلت فداك! والله إنّي لما سمعت قوله: ثلاثين ألفا استرخت جميع أعضائي! فضحك وقال: خذ جاريتك واذهب إلى منزلك، ففي غد يجيء إليك رسول صاحب خراسان فقوّ نفسك، ولا تأخذ منه أقلّ من خمسين ألفا قال إسحاق. فأخذت الجارية ومضيت إلى منزلي، فجاءني رسول صاحب خراسان وساومني فيها، فطلبت خمسين ألفا، فقال لي: هذا كثير، ولكن تأخذ ثلاثين ألفا فقويت نفسي وامتنعت فصعد معي إلى أربعين ألف دينار فكاد عقلي يذهب من الفرح ولم أتمالك أن قلت له: بعتك. فأحضر المال وأقبضنيه وسلّمت الجارية إليه ومضيت من الغد إلى الفضل. فقال لي: يا إسحاق، بكم بعت الجارية؟ قلت بأربعين ألفا، والله لما سمعتها منه كاد عقلي يذهب، وقد حصل عندي- جعلت فداك- مائة ألف دينار ولم يبق لي أمل، فأحسن الله جزاءك، فأمر بالجارية فأخرجت إليّ، وقال: يا إسحاق: خذ جاريتك وانصرف. قال إسحاق: فقلت: هذه الجارية والله أعظم الناس بركة فأعتقتها وتزوّجتها فولدت لي أولادي.
قيل: إنّ محمّد بن إبراهيم الإمام بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس، حضر يوما عند الفضل بن يحيى ومعه سفط فيه جوهر، وقال له: إنّ حاصلي قد قصّر عمّا أحتاج إليه، وقد علاني دين مبلغه ألف درهم، وإني أستحي أن أعلم أحدا بذلك وآنف أن أسأل أحدا من التجار أن يقرضني ذلك، وإن كان معي رهن يفي بالقيمة وأنت- أبقاك الله- لك تجار يعاملونك، وأنا أسألك أن تقترض لي من أحدهم هذا المبلغ وتعطيه هذا الرهن، فقال له الفضل: السّمع والطاعة، ولكنّ نجح هذه الحاجة أن تقيم عندي هذا اليوم، فأقام ثمّ إن الفضل أخذ السّفط منه وهو مختوم