الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدواوين وأمرهم بترتيب الطّبقات وضبط العطاء. فقالوا: بمن نبدأ يا أمير المؤمنين؟ فأشار ناس من الصّحابة عليه بأن يبدأ بنفسه، وقالوا: أنت أمير المؤمنين، وتقديمك واجب. فكره عمر ذلك وقال: ابدءوا بالعبّاس عمّ رسول الله- صلوات الله عليه- وببني هاشم، ثمّ بمن بعدهم طبقة طبقة وضعوا آل الخطّاب حيث وضعهم الله عز وجل. فاعتمد ما أشار به، وجرى الأمر على ذلك مدّة خلافته وخلافة عثمان، رضي الله عنهما. ثم في آخر خلافته خطر له تغيير هذا الرأي، وأن يفرض لكل واحد من المسلمين أربعة آلاف وقال ألف يجعلها لعياله إذا خرج إلى الحرب، وألف يتجهّز بها، وألف يصحبها معه، وألف يرتفق [1] بها.
فمات عمر- رضي الله عنه قبل إتمام هذا الرأي ومن وقائعها المشهورة وقعة الجمل.
شرح مبدإ وقعة الجمل وكيفية الحال في ذلك
لما قتل عثمان بن عفّان- رضي الله عنه اجتمع الناس وقصدوا منزل أمير المؤمنين عليّ- عليه السلام وسألوه تولّي أمرهم، فأبى عليهم. وقال: لا حاجة لي في أمركم. فألحّوا عليه إلحاحا شديدا، واجتمعوا إليه من كلّ صوب، يسألونه ذلك حتّى أجاب، فبايعه الناس فسار فيهم بسيرة الحقّ، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكانت حركاته وسكناته- عليه السلام جميعها للَّه، وفي الله، لا يقضي بها حقّ أحد.
وكان لا يأخذ ولا يعطي إلا بالحقّ والعدل، حتّى إنّ أخاه عقيلا وهو ابن أبيه وأمّه طلب من بيت المال شيئا لم يكن له بحقّ، فمنعه عليه السلام وقال: يا أخي: ليس لك في هذا المال غير ما أعطيتك، ولكن اصبر حتّى يجيء مالي وأعطيك منه ما تريد. فلم يرض عقيل هذا الجواب وفارقه وقصد معاوية- رضي الله عنه بالشأم، وكان لا يعطي ولديه الحسن والحسين- عليهما السلام أكثر من حقّهما فانظر إلى رجل حمله ورعه [2] على هذا الصّنيع بولديه، وبأخيه من
[1] يرتفق بها: ينفقها على نفسه ولمنفعته
[2]
الورع: التشدّد في الدين وطاعة الله، خوفا لمعصية والإثم
أبويه.
فلمّا سار فيهم هذه السيرة، ثقل على بعض الناس فعله، وكرهوا مكانه.
فخرج الزّبير وطلحة- رضي الله عنهما بعد ما بايعاه إلى مكة، وكانت عائشة زوجة الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- بمكّة. قد خرجت إليها ليالي حوصر عثمان بن عفّان- رضي الله عنه فاتّفقا معها على عدم الرّضا بإمارة عليّ، وعلى الطّلب بدم عثمان، ونسبوا عليّا- عليه السلام إلى أنّه ألّب [1] الناس على عثمان وجرّأهم على قتله وما زال عليّ عليه السلام من أكبر المساعدين لعثمان الذّابين عنه، وما زال عثمان يلجأ إليه في دفع الناس عنه فيقوم- عليه السلام في دفعهم عنه القيام المحمود- وفي آخر الأمر لمّا حوصر عثمان، أرسل عليّ- عليه السلام ابنه الحسن- عليه السلام لنصرة عثمان رضي الله عنه. فقيل: إن الحسن عليه السلام استقتل مع عثمان، وكان عثمان يسأله أن يكفّ فيقسم عليه وهو يبذل نفسه في نصرته. وأمّا طلحة- رضي الله عنه فإنه كان من أكبر المساعدين على عثمان. وهذا ما تشهد به جميع التواريخ.
وأمّا عائشة- رضي الله عنها فإنّها كانت قد خرجت من المدينة إلى مكّة ليالي حوصر عثمان بن عفّان، ثم رجعت من مكّة إلى المدينة، فلقيها في الطريق بعض أخوالها فقالت له: ما وراءك؟ قال: قتل عثمان، قالت: فما صنع الناس بعده؟ قال: بايعوا عليّا، قالت: ليت هذه [2] انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك!! ثمّ رجعت إلى مكّة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما، والله لأطلبنّ بدمه. فقال لها الرجل: لم؟ والله إنّ أوّل من أمال حروفه [3] لأنت، والله لقد كنت تقولين: اقتلوا (نعثلا) فقد كفر- وكان ذلك لقبا لعثمان- فقالت:
إنّهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأوّل. ولمّا رجعت إلى مكّة اتّفقت مع الزّبير وطلحة على ما ذكرناه، من الطّلب بدم عثمان،
[1] ألب: حرّض.
[2]
ليت هذه: قصدت انطباق السّماء على الأرض لهول الحدث.
[3]
أمال حروفه: عاب اسمه.
وسخط إمارة علي، واتّفق معهم مروان بن الحكم- وهو ابن عمّ عثمان- وقالوا للناس: إنّ الغوغاء [1] من أهل الأمصار وعبيد أهل المدينة، اجتمعوا على هذا الرجل المسكين- يعني عثمان- فقتلوه ظلما وعدوانا، فسفكوا الدّم الحرام في البلد الحرام في الشّهر الحرام. ثمّ استمالوا أناسا وعزموا على قصد البصرة واستمالة أهلها والتقوا بها على قتال عليّ- عليه السلام فلمّا انتهى ذلك إلى أمير المؤمنين قام فخطب النّاس وأعلمهم الحال، وقال: إنّها فتنة وسأمسك الأمر ما استمسك بيدي. ثمّ بلغه ما هم فيه من الجموع والتّصميم على الحرب فنهد إليهم في جيش من المهاجرين والأنصار.
وقد كانت عائشة- رضي الله عنها في توجّهها إلى البصرة اجتازت بماء يقال له: الحوأب، فنبحتها كلابه. فقالت للدليل: ما اسم هذا الموضع؟ قال:
الحوأب فصرحت بأعلى صوتها وقالت: ردّوني إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول عند نسائه: «أيتكنّ تنبحها كلاب الحوأب؟» ثم عزمت على الرّجوع، فقالوا لها: إن الدّليل كذب ولم يعرف الموضع.
وقالوا لها: إن لم تسيري من هذا الموضع وإلا أدرككم [2] عليّ بن أبي طالب فيه فهلكتم فسارت وسار عليّ- عليه السلام فالتقى الجمعان بظاهر البصرة، وجرت خطوب وحروب، ففي بعضها التقى- عليه السلام وطلحة والزّبير، فقال عليّ- عليه السلام لطلحة: يا طلحة: تطلب بدم عثمان؟ فلعن الله قتلة عثمان، يا طلحة: أجئت بعرس [3] رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت؟ أما بايعتني؟ قال: بايعتك والسّيف على عنقي. فقال عليّ- عليه السلام للزّبير: يا زبير: ما أخرجك؟ قال: أنت، ولا أراك أهلا لهذا الأمر ولا أولى به منّا. فقال عليّ- عليه السلام: لقد كنّا نعدّك من بني
[1] الغوغاء: سفلة السّوقة والعوّام. السّفهاء من الجمهور.
[2]
كذا في ألما ص/ 106/ وفي رحما ص/ 62/، وفي طبعة بيروت ص/ 86/.
[3]
العرس: الزّوجة أو الزّوج.
المطّلب حتّى بلغ ابنك ابن السّوء ففرّق بيننا عبد الله بن الزّبير. وذكره على أشياء وقال له: أتذكر لمّا قال رسول الله- صلوات الله عليه وسلامه- لتقاتلنّه وأنت ظالم له؟ قال: اللَّهمّ نعم، ولو ذكرت لما سرت مسيري هذا، وو الله لا أقاتلك أبدا؟ فانصرف أمير المؤمنين- عليه السلام إلى أصحابه وقال: أما الزّبير: فقد أعطى الله عهدا ألا يقاتلكم ثمّ إنّ الزبير عزم على ترك الحرب فخدعه ابنه عبد الله، وما برح به حتى كفّر [1] عن يمينه وقاتل، ولما تراءى الجمعان كان عسكر عائشة وطلحة والزّبير- رضي الله عنهم ثلاثين ألفا، وعسكر عليّ- عليه السلام عشرين ألفا، فقبل أن تتشب الحرب وعظهم أمير المؤمنين- عليه السلام وندبهم إلى الصّلح، وبذل لهم كلّ ما ليس عليه فيه غضاضة من جهة الدين. فمالوا شيئا إلى الصلح، وباتوا على ذلك ثمّ في الغداة نشب القتال بين القبيلين وجرت مناوشات وحروب، أفضت إلى نصرة جيش أمير المؤمنين- عليه السلام.
فأمّا الزّبير لمّا رأى النّصرة عليهم ردّ رأس فرسه ومرّ فتبعه رجل من عرب البصرة فتبعه عمير بن جرموز فقتله بوادي السباع، وأتى إلى عليّ- عليه السلام بسيفه فقال للحاجب: استأذن لقاتل الزّبير، فقال عليّ- عليه السلام:
بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار (وصفيّة أمّ الزبير وهي عمّة أمير المؤمنين- عليه السلام ولمّا رأى سيفه قال: سيف طالما جلا الكروب عن وجه رسول الله صلوات الله عليه!!. وأمّا طلحة: فجاءه سهم في رجله فأعطبه، فدخل البصرة رديفا لغلامه وقد امتلأ خفّه دما، وهو يقول: اللَّهمّ خذ لعثمان مني حتى ترضى. فمات بدار خربة من دور البصرة، وقبره اليوم بالبصرة في مشهد محترم عندهم، إذا اعتصم به خائف أو طريد، لا يجسر أحد كائنا من كان على إخراجه منه. ولأهل البصرة في طلحة اعتقاد عظيم إلى يومنا، وقيل: إنّ الّذي قتل طلحة مروان بن الحكم.
[1] كفّر عن يمينه: أدّى لوجه الله ما فرض على الحانث بيمينه، كالصوم أو عتق الرقاب.
وأمّا عائشة- رضي الله عنها: فإنّها كانت على جمل في هودج، وقد ألبس هودجها الدّروع والنّسائج الحديد، فلما اشتدّ القتال وانفلّت جموعها عرقب [1] الجمل فوقع، ورفع هودجها حملا ووضع في مكان بعيد عن النّاس وكان أخوها محمّد بن أبي بكر من أصحاب عليّ- عليه السلام وابن زوجته أسماء بنت عميس [2]رضي الله عنها فأمره عليّ- عليه السلام أن يمضي إلى أخته وينظر أهي سليمة أم أصابها شيء من جراح؟ فمضى فرآها سليمة، ثم أدخلها ليلا إلى البصرة، ثم إنّ أمير المؤمنين- عليه السلام أذن للنّاس في دفن القتلى، وكانوا عشرة آلاف من القبيلين ثم أمر عليه السلام بجمع الأسلاب، وأدخلها إلى المسجد الجامع بالبصرة، ونادى في الناس من عرف من قماشه فليأخذه ثم إن أمير المؤمنين- عليه السلام أحسن إلى عائشة غاية الإحسان، وجهّزها بكلّ ما ينبغي لمثلها، وأذن لها في الرجوع إلى المدينة وبعث معها كلّ من نجا ممّن خرج معها إلا من أحبّ المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات لأجل مؤانستها في الطريق، وسيّرها في صحبة أخيها محمّد بن أبي بكر مكرّمة محترمة. فلما كان يوم رحيلها حضر عليّ- وحضر الناس فقالت عائشة- رضي الله عنها: يا بنيّ (وإنما قالت ذلك لأن نساء النبيّ عليه السلام هنّ أمهات المؤمنين كذلك قال الله تعالى ورسوله صلوات الله عليه) : «لا يعتب بعض على بعض إنّه والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها [3] وإنه على معتبتي [4] لمن الأخيار» وقال عليّ- عليه السلام: «صدقت والله، ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنّها لزوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة»
[1] عرقب الجمل: أصيب في عرقوبه. والعرقوب. عصب غليظ فوق العقب.
[2]
أسماء بنت عميس: زوجة جعفر بن أبي طالب تزوّجها أبو بكر الصدّيق بعد قتل زوجها في وقعة مؤتة فولدت له محمّدا. ولمّا مات أبو بكر تزوجها عليّ توفيت نحو سنة/ 40/ هـ. انظر الأعلام ج 1 ص/ 306/.
[3]
الأحماء: مفردها الحمو، وهو الواحد من أهل الزوج أو الزوجة.
[4]
المعتبة: العتب والمؤاخذة أو استرضاء العاتب.