الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك مرارا ثم إن عبد الله بن الزبير أرسل أخاه مصعبا وكان شجاعا، إلى المختار فقتله ومات مروان بن الحكم في سنة خمس وستين وبويع ابنه عبد الملك
ثمّ ملك ابنه عبد الملك بن مروان
كان عبد الملك لبيبا عاقلا، عالما ملكا جبّارا قويّ الهيبة شديد السّياسة، حسن التدبير للدنيا. في أيّامه نقل الديوان من الفارسيّة إلى العربية، واخترعت سياقة المستعربين. وهو أول من نهى الرعيّة عن كثرة الحديث بحضرة الخلفاء ومراجعتهم، وكانوا يتجرءون عليهم. (وقد تقدم شرح ذلك) وهو الّذي سلّط الحجّاج بن يوسف على الناس، وغزا الكعبة، وقتل عبد الله بن الزبير وأخاه مصعبا من قبله.
ومن طريف ما وقع في ذلك: أنّ عبد الملك لما أرسل يزيد بن معاوية الجيش لقتال أهل المدينة وغزو الكعبة، امتعض عبد الملك من ذلك غاية الامتعاض وقال: ليت السّماء انطبقت على الأرض! فلما صار خليفة فعل ذلك وأشدّ منه:
فإنّه أرسل الحجّاج [1] لحصار ابن الزّبير وغزو مكّة، وكان عبد الملك قبل الخلافة أحد فقهاء المدينة، وكان يسمّى: حمامة المسجد، لمداومته تلاوة القرآن. فلمّا مات أبوه وبشّر بالخلافة أطبق المصحف، وقال: هذا فراق بيني وبينك. وتصدّى لأمور الدّنيا. وقيل: إنّه قال يوما لسعيد بن المسيّب [2] : يا سعيد: قد صرت أفعل الخير فلا أسرّ به، وأصنع الشرّ فلا أساء به: فقال له سعيد بن المسيّب الآن تكامل فيك موت القلب. وفي أيّامه قتل عبد الله بن الزّبير وأخوه مصعب أمير العراق.
فأمّا عبد الله بن الزبير: فإنه كان قد اعتصم بمكّة، وبايعه أهل الحجاز
[1] الحجّاج: هو الحجّاج بن يوسف بن الحكم الثّقفي. نشأ في الطائف ودخل في جند عبد الملك بن مروان في الشأم. وثق به عبد الملك فولاه مقاتلة ابن الزبير في الحجاز فحاصر الكعبة وقضى عليه. ثم ولاه العراق فأعمل فيها البطش حتى أخضعها لخلافة عبد الملك وثبتت له إمارة العراق عشرين سنة. توفي عام/ 95/ هـ. انظر جوانب أخرى من حياة الحجاج في الأعلام للزركلي، المجلّد الثاني ص/ 168/.
[2]
سعيد بن المسيّب: المخزوميّ القرشيّ. تابعيّ من أبرز فقهاء المدينة. أعجب بابن الخطّاب وروى أحاديثه. توفي في المدينة المنوّرة عام/ 94/ هـ.
وأهل العراق. وكان عظيم الشّحّ، فلذلك لم يتمّ أمره. فأرسل الحجّاج إليه فحاصره بمكّة ورمى الكعبة بالمنجنيق، وحاربه وخذله أهله وأصحابه، فدخل على أمّه وقال لها:«يا أمّت، قد خذلني النّاس حتى ولدي وأهلي، ولم يبق معي غير نفر يسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة. والقوم يعطونني ما أردت من الدّنيا فما رأيك؟» فقالت له: «أنت أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنّك على حقّ فامض لشأنك ولا تمكّن من رقبتك غلمان بني أميّة، وإن كنت إنّما أردت الدّنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وكم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن» فقال:
يا أمّت «إنّي أخاف إن قتلوني أن يمثّلوا بي» قالت: «يا بنيّ، إنّ الشاة لا يضرّها سلخها بعد ذبحها» وما زالت تحرّضه بهذا وأشباهه حتى خرج، فصمّم على المناجزة فقتل. وأرسل الحجّاج بالبشارة إلى عبد الملك، وكان ذلك سنة ثلاث وسبعين.
وأمّا أخوه مصعب بن الزّبير أمير العراق: فكان شجاعا جميلا، جليل القدر ممدوحا. تزوّج سكينة بنت الحسين- عليه السلام وعائشة بنت طلحة، وجمعهما في داره. وكانتا من أعظم النّساء قدرا ومالا وجمالا، فقال عبد الملك يوما لجلسائه، من أشجع النّاس؟ قالوا: أنت. قال: لا لكنّ أشجع الناس من جمع في داره بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين. يعني مصعبا. ثم تجهّز عبد الملك لقتال مصعب وودّع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فلمّا ودّعها بكت فبكى جواريها لبكائها، فقال عبد الملك: قاتل للَّه كثير عزّة [1]، كأنّه شاهد هذا حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه
…
حصان عليها نظم درّ يزينها
[1] كثيّر عزّة: هو كثيّر بن عبد الرحمن الخزاعيّ. بدأ حياته راعيا في وادي القرى بجوار المدينة المنوّرة وتشيّع في أوّل أمره لآل عليّ بن أبي طالب ثم مال إلى الأمويّين ومدحهم ولا سيّما عبد العزيز بن مروان. وعبد الملك بن مروان. جاء كثير من شعره في الغزل بعزّة.
توفي عام/ 105/ هـ.
نهته فلمّا لم تر النّهي نافعا
…
بكت فبكى ممّا شجاها قطينها [1]
(الطويل) ثم سار إلى حرب مصعب، فالتقيا بأرض دجيل، فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل مصعب وذلك في سنة إحدى وسبعين.
وكان عبد الملك أديبا ذكيّا فاضلا، قال الشعبيّ [2] ، ما ذاكرت أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان، فإنّي ما ذاكرته حديثا إلا زادني فيه ولا شعرا إلا زادني فيه.
وقيل لعبد الملك: لقد أسرع إليك الشّيب، قال:«شيّبني صعود المنابر والخوف من اللّحن» (وكان اللحن عندهم في غاية القبح) ومن آرائه ما أشار به وهو صبيّ على مسلم بن عقبة المريّ، حين أرسله يزيد بن معاوية لقتال أهل المدينة فوصلها وبنو أميّة محاصرون بها ثم أخرجوا، فلما لقيهم مسلم بن عقبة استشار بعبد الملك بن مروان وكان حدثا، فقال له: الرأي أن تسير بمن معك، فإذا انتهيت إلى أدنى نخلها نزلت، فاستظلّ الناس في ظلّه وأكلوا من صفوه. فإذا أصبحت مضيت وتركت المدينة على اليسار، ثمّ درت بها حتّى تأتيهم من قبل الحرّة مشرّقا، ثم تستقبل القوم. فإذا استقبلتهم وقد طلعت الشّمس عليهم، طلعت بين أكتاف أصحابك فلا تؤذيهم، بل يصيب أهل المدينة أذاها ويرون من ائتلاف بيضكم وأسنّة رماحكم وسيوفكم ودروعكم ما لا ترونه أنتم ما داموا مغرّبين. ثم قاتلهم واستعن باللَّه. وقال عبد الملك يوما لجلسائه: ما تقولون في قول القائل:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت
…
فوا حربا ممّن يهيم بها بعدي
(طويل)
[1] انظر الخبر في ترجمة كثيّر في مقدمة ديوانه بشرح قدري مايو، طبعة دار الجيل ببيروت ص/ 13/.
[2]
الشّعبيّ: عامر بن شراحيل محدّث وحافظ من التابعين، قرّبه عبد الملك بن مروان وكان رسوله إلى ملك الروم. توفي عام/ 103/ هـ.
قالوا: معنى حسن. قال: هذا ميت كثير الفضول، ليس هذا معنى جيّدا.
قالوا: صدقت، قال: فكيف كان ينبغي أن يقول؟ فقال رجل منهم: كان ينبغي أن يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت
…
أوكّل بدعد من يهيم بها بعدي
(طويل) قال عبد الملك: ما أحسنت. قالوا فكيف ينبغي أن يكون؟ قال: ينبغي أن يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت
…
فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي
(طويل) قالوا: أنت يا أمير المؤمنين أشعر الثّلاثة. ولما اشتدّ مرضه قال:
أصعدوني على شرف، فأصعدوه إلى موضع عال، فجعل يتنسّم الهواء ثم قال: يا دنيا: ما أطيبك؟ إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير وإن كنّا منك لفي غرور.
وتمثّل بهذين البيتين:
إن تناقش يكن نقاشك يا
…
رب عذابا، لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز فأنت ربّ صفوح
…
عن مسيء ذنوبه كالتّراب
(خفيف) ولما مات صلّى عليه ابنه الوليد فتمثّل هشام ابنه الآخر:
فما كان قيس هلكه هلك واحد
…
ولكنّه بنيان قوم تهدّما
(طويل) فقال له الوليد: اسكت، فأنت تتكلم بلسان شيطان. ألا قلت كما قال الآخر إذا سيّد منّا مضى قام سيّد قئول لما قال الكرام فعول (طويل) وأوصى عبد الملك بن مروان أخاه عبد العزيز حين مضى إلى مصر أميرا عليها فقال له:«ابسط بشرك، وألن كنفك، وآثر الرّفق في الأمور، فإنّه»