الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما جلس على سرير الخلافة تقدّم بقتل ابن البلديّ وزير أبيه، وتوفّي في سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
شرح حال الوزارة في أيّامه
أوّل وزرائه عضد الدين أبو الفرج محمّد بن أبي الفتوح عبد الله بن رئيس الرّؤساء الّذي كان قبل ذلك أستاذ الدّار.
كان عضد الدّين من أفاضل الناس وأعيانهم، وكان أستاذ الدار في أيّام المستنجد فلمّا جرى للمستنجد ما جرى استولى عضد الدين، ونهض في إخراج المستضيء من الحبس ومبايعته وإحلافه فاستوزره المستضيء، ونهض عضد الدين بأعباء الوزارة نهوضا مرضيا وفرّق في يوم جلوسه في دست الوزارة ذهبا كثيرا وحنطة على المقيمين بالمشاهد والجوامع والمدارس والرّبط، وتلطّف بالأمور تلطفا لم يكن في حساب النّاس وبيته مشهور بالرّياسة، يعرفون ببيت الرفيل وكان ابن التّعاويذي [1] الشاعر البغدادي شاعرهم ومنقطعا إليهم وأنفق جلّ عمره معهم، ولهم يخاطب بقوله:
قضيت شطر العمر في مدحكم
…
ظنّا بكم أنّكم أهله
وعدت أفنيه هجاء لكم
…
فضاع فيكم عمري كلّه
(سريع) وله فيهم مدائح كثيرة فمن جملتها:
وما زلت في آل الرّفيل بمعزل
…
عن الجور مبذولا لي الأمن والخصب
فإن أقترف ذنبا بمدح سواهم
…
فإنّ خماص [2] الطّير يقنصها الحبّ
[1] ابن التعاويذي: محمّد بن عبيد الله أبو الفتح التّعاويذي، شاعر جزل الألفاظ رقيق المعاني، كان كاتبا بديوان المقاطعات ببغداد وعمي في آخر عمره. جمع ديوانه بنفسه، وكانت وفاته عام/ 584/ هـ.
[2]
الخماص: الشديدة الجوع، المهزولة، والأخمص من الطير والحيوان: المهزول.
وإن عاد لي عطف الوزير محمّد
…
فقد أكثب [1] النائي ولان لي الصّعب
وزير إذا اعتلّ الزّمان فرأيه
…
هناء [2] به تطلى خلائقه الجرب
(طويل) وما زال أمر عضد الدّين يجري على السّداد حتّى عزله المستضيء وقبض عليه وصورة عزله: كان يوما جالسا في الدّست فهجم عليه خادم من خدم الخليفة فقال له: قد استغني عنك، ثمّ أطبق دواته ودخل الأتراك والجند إلى دوره فنهبوا ما بها ودخل العوامّ أيضا، وكسرت الصناديق الآبنوس [3] والعاج بالدّبابيس [4] وأخذ جميع ما كان بها، فخرج عضد الدين وهو يتشاهد ويقول للأتراك: أما تستحيون منّي؟ أما دخلتم داري؟ أما أكلتم زادي؟ فلم ينفعه ذلك، فلم يمض إلا ساعة واحدة حتّى صارت داره بلاقع [5] ، ثمّ حمل إلى الحريم ووكل به هناك مدّة ثم أعاده المستضيء إلى الوزارة وحكّمه وبسطه، فصفت له الدّنيا وعظم شأنه وكثرت خيراته وهباته وأحبّه الناس، وكان سخيّا وهوبا شريف النّفس، قيل إنّه ما اشترى لداره قطّ سكّرا بأقلّ من ألف دينار.
حدّث عنه بعض مماليكه قال: احتاج مرّة إلى ألف دينار، فأنفت نفسه أن يقترضها من أولاده أو من غيرهم، وكان يأنس بي فقال: يا ولدي، قد احتجت إلى ألف دينار أعيدها عليك بعد أيّام، فقلت: السّمع والطاعة يا مولاي، ثمّ مضيت وأحضرت له خمسة آلاف دينار، وقلت: يا مولاي، هذه والله اكتسبتها منك فخذ منها ما شئت، فأطرق ساعة ثمّ قال: والله لا أخذت منها حبّة واحدة، خذها وانصرف، ثمّ أنشد:
والصّاحب المتبوع يقبح أن يرى
…
متتبّعا ما في يدي أتباعه
[1] أكثب: دنا وقرب.
[2]
الهناء: القطران يطلى به الأجرب.
[3]
الآبنوس: ضرب ثمين من الخشب الصّلب الأسود.
[4]
الدّبابيس: العصيّ الطويلة المحدّدة الرءوس يقمع بها ويضرب.
[5]
بلاقع: قفار خاوية.