الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح الفتنة بين الأمين والمأمون
كان الفضل بن الرّبيع وزير الأمين قد خلف المأمون لما فعله عند موت الرّشيد بطوس، من إحضار جميع ما كان في عسكره إلى الأمين بعد أن كان الرشيد قد أشهد به للمأمون، فخاف الفضل بن الربيع من المأمون أنه إن ولي الخلافة كافأه على فعله فحسّن للأمين خلع المأمون والبيعة لابنه موسى، واتّفق مع الفضل جماعة على ذلك، فمال الأمين إلى أقوالهم، ثمّ إنّه استشار عقلاء أصحابه فنهوه عن ذلك، وحذّروه عاقبة البغي ونكث العهود والمواثيق، وقالوا له: لا تجرّئ القوّاد على النكث للأيمان وعلى الخلع فيخلعوك فلم يلتفت إليهم، ومال إلى رأي الفضل بن الربيع، وشرع في خدع المأمون باستدعائه إلى بغداد فلم ينخدع، وكتب يعتذر، وترددت المراسلات والمكاتبات بينهما حتى رقّ المأمون، وعزم الإجابة إلى خلع نفسه، ومبايعة موسى بن الأمين، فخلا به وزيره الفضل بن سهل وشجّعه على الامتناع وضمن له الخلافة، وقال: هي في عهدتي فامتنع المأمون، ونهض الفضل بن سهل بأمر المأمون واستمال له الناس وضبط له الثغور والأمور، واشتدّت العداوة بين الأخوين: الأمين والمأمون، وقطعت الدروب بينهما من بغداد إلى خراسان، وفتّشت الكتب وصعب الأمر، وقطع الأمين خطبة المأمون في بغداد وقبض على وكلائه، وكذا فعل المأمون بخراسان، ونما الشرّ بينهما وكان بقدر ما عند المأمون من التيقّظ والضّبط، عند الأمين من الإهمال والتفريط [1] والغفول فممّا يحكى من تفريط الأمين وجهله، أنه كان قد أرسل إلى حرب أخيه رجلا من أصحاب أبيه يقال له عليّ بن عيسى بن ماهان، وأرسل معه خمسين ألفا، فيقال:
إنه ما رئي قبل ذلك ببغداد عسكر أكثف منه، وحمل السّلاح الكثير والأموال الوافرة وخرج معه مشيعا مودعا، وكان أوّل بعث بعثه إلى أخيه فمضى عليّ بن عيسى بن ماهان في ذلك العسكر الكثيف، وكان شيخا من شيوخ الدولة جليلا مهيبا، فالتقى بطاهر بن الحسين ظاهر الرّيّ [2] ، وعسكر طاهر حدود أربعة ألف فارس،
[1] التفريط: التضييع للمصلحة.
[2]
الرّيّ: مدينة وإمارة جنوبي طبرستان وبحر قزوين.
فاقتتلوا قتالا شديدا، كانت الغلبة فيه لطاهر، وقتل عليّ بن عيسى وجيء برأسه إلى طاهر فكتب طاهر إلى المأمون كتابا نسخته:
وأرسل الكتاب على البريد، فوصل إلى المأمون في ثلاثة أيام، وبينهما مسيرة مائتين وخمسين فرسخا [1] ، ثم إنّ نعي عليّ بن عيسى ورد إلى الأمين وهو يصطاد السّمك، فقال للذي أخبره بذلك: دعني، فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين، وأنا إلى الآن ما اصطدت شيئا- وكان كوثر خادما له وكان يحبّه- ولقد كانت أمّه زبيدة أسدّ رأيا منه فإنّ عليّ بن عيسى لما أرسله الأمين إلى خراسان بالجيش حضر إلى باب زبيدة ليودّعها فقالت له: يا عليّ، إنّ أمير المؤمنين- وإن كان ولدي وإليه انتهت شفقتي- فإنّي على عبد الله- تعني المأمون- منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى وإنّما ولدي ملك نافس أخاه في سلطانه، فاعرف لعبد الله حقّ ولادته وأخوّته، ولا تجبهه بالكلام فإنّك لست نظيرا له ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد أو غلّ ولا تمنع عنه جارية أو خادما، ولا تعنف عليه في السّير، ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله وخذ بركابه إذا ركب، وإن شتمك فاحتمل منه، ثمّ دفعت إليه قيدا من فضّة وقالت: إذا صار إليك فقيّده بهذا القيد. فقال لها سأفعل ما أمرت به، وكان الناس يجزمون بنصرة عليّ بن عيسى استعظاما له ولعسكره، واستصغارا لمن يلتقيه من جند المأمون فقدّر الله خلاف ما جزموا به، وكان من الأمر ما كان.
وكانت تلك الأيام أيّام فتن وحروب، فممّا جرى من ذلك: أن الحسين بن عليّ بن عيسى بن ماهان وكان أحد الأمراء شغب على الأمين، وخلعه وحبسه وبايع للمأمون وتبعه ناس من العسكر فاجتمع ناس آخرون وقالوا: إن كان الحسين ابن علي بن عيسى يريد أن يأخذ وجها عند المأمون بما فعل، فلنأخذنّ نحن وجها
[1] الفرسخ: مقياس فارسي للمسافة تقديره ثمانية آلاف متر.