الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بختمه، وأرسل معه ألف ألف درهم، ونفّذ الدراهم والسّفط إلى منزله، وأخذ خطّ وكيله بقبضه، وأقام محمّد في دار الفضل إلى آخر النهار، ثم انصرف إلى داره، فوجد السفط ومعه ألف ألف درهم فسرّ بذلك سرورا عظيما، فلمّا كان الغد بكّر إلى الفضل ليشكره على ذلك فوجده قد بكّر إلى دار الرّشيد فمضى محمّد إلى الرشيد، فلمّا علم الفضل به خرج من باب آخر ومضى إلى دار أبيه فمضى محمّد إليه وشكره على فعله، وقال له: إنّي بكرت إليك لأشكرك على إحسانك، فقال له الفضل: إنّي فكّرت في أمرك فرأيت أنّ هذه الألف ألف التي حملتها أمس إليك لتقضي بها دينك ثم تحتاج فتقترض، فبعد قليل يعلوك مثلها، فبكرت اليوم إلى أمير المؤمنين وعرضت عليه حالك، وأخذت لك مائة ألف ألف درهم أخرى، ولمّا حضرت إلى أمير المؤمنين خرجت أنا بباب آخر، وكذلك فعلت لما حضرت إلى باب أبي، لأني ما كنت أوثر أن ألقاك حتّى يحمل المال إلى منزلك، وقد حمل.
فقال له محمّد: بأيّ شيء أجازيك على هذا الإحسان؟ ما عندي شيء أجازيك به إلّا أني ألتزم بالأيمان المؤكدة وبالطلاق والعتاق والحجّ، أنّي ما أقف على باب غيرك ولا أسأل سواك.
قالوا وحلف محمد أيمانا مؤكدة وكتب بها خطّه، وأشهد بها عليه أنه لا يقف بباب غير باب الفضل بن يحيى، فلما ذهبت دولة البرامكة وتولّى الفضل بن الربيع، فلم يفعل والتزم باليمين، فلم يركب إلى أحد، ولم يقف على باب أحد حتّى مات.
سيرة جعفر بن يحيى البرمكيّ
كان جعفر بن يحيى فصيحا لبيبا ذكيّا فطنا، كريما حليما، وكان الرشيد يأنس به أكثر من أنسه بأخيه الفضل! لسهولة أخلاق جعفر، وشراسة أخلاق الفضل. وقال الرشيد يوما ليحيى: يا أبي ما بال الناس يسمّون الفضل الوزير الصغير ولا يسمون جعفرا بذلك؟ فقال يحيى: إنّ خدمتك ومنادمتك يشغلانه عن ذلك. فجعل إليه أمر دار الرشيد: فسمّي بالوزير الصّغير أيضا.
قال الرشيد يوما ليحيى: قد أحببت أن أنقل ديوان الخاتم من الفضل إلى جعفر وقد استحييت من مكاتبته في هذا المعنى، فاكتب أنت إليه، فكتب يحيى إلى الفضل:«قد أمر أمير المؤمنين- أعلى الله أمره- أن تحوّل الخاتم من يمينك إلى شمالك، فأجابه الفضل: «قد سمعت لما أمر أمير المؤمنين في أخي، وما انتقلت عني نعمة صارت إليه ولا غربت عني رتبة طلعت عليه!» فقال جعفر:
للَّه درّ أخي، ما أكيس نفسه وأظهر دلائل الفضل عليه، وأقوى منّة العقل عنده، وأوسع في البلاغة ذرعه!.
قيل: إنّ جعفر بن يحيى البرمكيّ جلس يوما للشرب، وأحبّ الخلوة، فأحضر ندماءه الذين يأنس بهم وجلس معهم، وقد هيّئ المجلس ولبسوا الثياب المصبّغة. (وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو، لبسوا الثياب الحمر والصّفر والخضر) ثم أن جعفر بن يحيى تقدّم إلى الحاجب ألّا يأذن لأحد من خلق الله تعالى سوى رجل من النّدماء كان قد تأخّر عنهم، اسمه: عبد الملك بن صالح [1] ، ثم جلسوا يشربون ودارت الكاسات وخفقت العيدان، وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له: عبد الملك بن صالح ابن عليّ بن العباس، كان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه، وبذل له على ذلك أموالا جليلة فلم يفعل، فاتّفق أنّ هذا عبد الملك بن صالح حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظنّ الحاجب أنّه عبد الملك بن صالح الّذي تقدّم جعفر ابن يحيى بالإذن له، وألا يدخل غيره، فأذن الحاجب له، فدخل عبد الملك بن صالح العبّاسي على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضا للقصّة، وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم، أحضروا لنا من هذه الثياب المصبغة شيئا وأحضر له.
[1] عبد الملك بن صالح: اسم لشاعر ماجن عاصر الرشيد وعاشره ومدحه ونادمه، واسم لأحد أبناء عمّ السفاح والمنصور العباسيين. كان خطيبا فصيحا، ولّاه الهادي إمرة الموصل. ثم ولاه الرشيد المدينة فمصر فدمشق، ثم سجنه حتى أطلقه الأمين. توفي بالرقة عام/ 198/.
قميص مصبوغ، فلبسه وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه، وقال: اسقونا من شرابكم فسقوه رطلا، وقال: ارفقوا بنا فليس لنا عادة بهذا ثمّ باسطهم ومازحهم، وما زال حتّى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحا شديدا، وقال له: ما حاجتك؟ قال: جئت- أصلحك الله- في ثلاث حوائج، أريد أن تخاطب الخليفة فيها: أوّلها: أنّ عليّ دينا مبلغه ألف درهم أريد قضاءه وثانيها؟: أريد ولاية لابني يشرف بها قدره، وثالثها: أن تزوّج ولدي بابنة الخليفة فإنّها بنت عمه، وهو كفء لها، فقال له جعفر بن يحيى- قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث، أما المال، ففي هذه الساعة يحمل إلى منزلك، وأما الولاية، فقد ولّيت ابنك مصر، وأمّا الزّواج، فقد زوجته فلانة ابنة مولانا أمير المؤمنين على صداق مبلغه كذا وكذا، فانصرف في أمان الله، فراح عبد الملك إلى منزله فرأى المال قد سبقه، ولمّا كان من الغد حضر جعفر عند الرشيد وعرّفه ما جرى وأنه قد ولى ابنه مصر وزوّجه ابنته فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرّشيد حتى كتب له التقليد بمصر وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد.
وقيل: إنّ جعفر بن يحيى كان بينه وبين صاحب مصر عداوة ووحشة، وكان كلّ منهما مجانبا للآخر، فزوّر بعض الناس كتابا عن لسان جعفر بن يحيى إلى صاحب مصر، مضمونه: أنّ حامل هذا الكتاب من أخصّ أصحابنا، وقد آثر التفرّج في الديار المصريّة، فأريد أن تحسن الالتفات إليه، وبالغ في الوصيّة، ثم أخذ الكتاب ومضى إلى مصر وعرضه على صاحبها، فلما وقف عليه تعجّب منه وفرح به، إلا أنه حصل عنده ارتياب وشكّ في هذا الكتاب، فأكرم الرّجل وأنزله في دار حسنة، وأقام له ما يحتاج إليه، وأخذ الكتاب منه وأرسله إلى وكيله ببغداد وقال له: قد وصل شخص من أصحاب الوزير بهذا الكتاب، وقد ارتبت به، فأريد أن تتفحّص لي عن حقيقة الحال في ذلك، وهل هذا خطّ الوزير أم لا؟ وأرسل كتاب الوزير صحبة مكتوبة إلى وكيله فجاء الوكيل إلى وكيل الوزير وحدّثه بالقصّة وأراه الكتاب، فأخذه وكيل الوزير ودخل إلى الوزير وعرّفه الحال، فلما
وقف جعفر بن يحيى على الكتاب علم أنه مزوّر عليه وكان عنده جماعة من ندمائه ونوّابه فرمى الكتاب عليهم، وقال لهم: أهذا خطّي؟ فتأمّلوه وأنكروه كلّهم وقالوا هذا مزوّر، فعرّفهم صورة الحال وأنّ الّذي زوّر هذا الكتاب موجود بمصر عند صاحبها، وأنه ينتظر عود الجواب بتحقيق حاله، وقال لهم: ما ترون، وكيف ينبغي أن نفعل في هذا؟ فقال بعضهم: ينبغي أن يقتل هذا الرّجل حتى تنحسم هذه المادّة، ولا يرجع أحد يتجرّأ على مثل هذا الفعل، وقال آخر: ينبغي أن تقطع يمينه التي زوّر بها هذا الخطّ، وقال آخر: ينبغي أن يوجع ضربا ويطلق حال سبيله وكان أحسنهم محضرا من قال: ينبغي أن تكون عقوبته على هذا الفعل حرمانه، وأن يعرف صاحب مصر بحاله ليحرمه فيكفيه من العقوبة أن قطع هذه المسافة البعيدة من بغداد إلى مصر ثم يرجع خائبا، فلما فرغوا من حديثهم قال جعفر: سبحان الله! أليس فيكم رجل رشيد؟ قد علمتم ما كان بيني وبين صاحب مصر من العداوة والمجانبة، وأنّ كلّ واحد منّا كانت تمنعه عزّة النفس أن يفتح باب الصّلح، فقد قيّض الله لنا رجلا فتح بيننا باب المصالحة والمكاتبة، وأزال بيننا تلك العداوة، فكيف يكون جزاؤه ما ذكرتم من الإساءة؟ ثمّ أخذ القلم وكتب على ظاهر الكتاب إلى صاحب مصر: سبحان الله! كيف حصل لك الشّكّ في خطّي؟ هذا خطّ يدي، والرّجل من أعزّ أصحابي، وأريد أن تحسن إليه وتعيده إليّ سريعا، فإنّي مشتاق إليه محتاج إلى حضوره، فلمّا وصل الكتاب وفي ظاهره خطّ الوزير إلى صاحب مصر كاد يطير من الفرح، وأحسن إلى الرجل غاية الإحسان ووصله بمال كبير، وتحف جميلة، ثم إنّ الرجل رجع إلى بغداد وهو أحسن الناس حالا، فحضر إلى مجلس جعفر بن يحيى، فلما دخل سلم عليه ووقع يقبّل الأرض ويبكي، فقال له جعفر: من أنت يا أخي؟ قال: يا مولانا أنا عبدك وصنيعتك المزوّر الكذّاب فعرفه جعفر وبشّ له وأجلسه بين يديه وسأله عن حاله وقال له: كم وصل إليك منه فقال مائة ألف دينار، فاستقلّها جعفر وقال: لازمنا حتّى نضاعفها لك، فلازمه مدّة فكسب معه مثلها، وما زالت دولة البرامكة في علوّ وارتفاع وتزايد، حتى انحرفت عنهم الدّنيا.