الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول في الأمور السّلطانيّة والسّياسات الملكيّة
أمّا الكلام على أصل الملك وحقيقته، وانقسامه إلى رياسات دينية ودنيوية، من خلافة وسلطنة، وإمارة وولاية، وما كان من ذلك على وجه الشرع وما لم يكن ومذاهب أصحاب الآراء في الإمامة، فليس هذا الكتاب موضوعا للبحث عنه، وإنّما هو موضوع للسّياسات والآداب التي ينتفع بها في الحوادث الواقعة، والوقائع الحادثة، وفي سياسة الرعيّة وتحصين المملكة، وفي إصلاح الأخلاق والسّيرة.
فأوّل ما يقال: إن الملك الفاضل هو الّذي اجتمعت فيه خصال وعدمت فيه خصال، فأمّا الخصال التي يستحبّ أن توجد فيه: فمنها العقل: وهو أصلها وأفضلها وبه تساس الدّول بالملك، وفي هذا الوصف كفاية.
ومنها العدل: وهو الّذي تستغزر به الأموال، وتعمر به الأعمال، وتستصلح به الرّجال:
ولما فتح السّلطان «هولاكو» [1] بغداد في سنة ستّ وخمسين وستّمائة، أمر أن يستفتي العلماء، أيّهما أفضل، السلطان الكافر العادل، أم السلطان المسلم الجائر؟ ثمّ جمع العلماء بالمستنصريّة [2] لذلك، فلما وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب، وكان رضيّ الدين عليّ بن طاووس [3] حاضرا هذا المجلس، وكان مقدّما، فلما رأى إحجامهم تناول الفتيا، ووضع خطّه فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر فوضع الناس خطوطهم بعده.
ومنها العلم: وهو ثمرة العقل، وبه يستبصر الملك فيما يأتيه ويذره ويأمن الزلل في قضاياه وأحكامه، وبه يتزيّن الملك في عيون العامّة ويصير به معدودا في خواص الملوك.
[1] هولاكو: فاتح مغولي، حفيد جنكيزخان، قضى على الخلافة العباسيّة في بغداد سنة/ 656/ هـ. كسر وأباد جيشه المماليك في عين جالوت سنة/ 658/ هـ. مات عام/ 663/ هـ.
[2]
المستنصريّة: ضاحية معمورة أنشأها الخليفة المستنصر، واحتلها هولاكو سنة/ 656/ هـ.
[3]
عليّ بن طاووس: من فقهاء بغداد في عهد المستعصم العباسي ولم نعثر له على ترجمة وافية
قال بعض الحكماء: الملك إذا كان خلوا من العلم كان كالفيل الهائج، لا يمرّ بشيء إلا خبطه، ليس له زاجر من عقل، ولا رادع من علم.
واعلم أنّه ليس المراد بالعلم في الملوك هو تصوّر المسائل المشكلة، والتبحّر في غوامض العلوم، والإغراق في طلبها، قال معاوية: ما أقبح بالملك أن يبالغ في تحصيل علم من العلوم! وإنّما المراد من العلوم في الملك، هو ألا يكون له أنس بها إلا بحيث يمكنه أن يفاوض أربابها فيها، مفاوضة يندفع بها الحال الحاضر ولا ضرورة في ذلك إلى التدقيق.
كان مؤيّد الدين محمّد بن العلقميّ وزير المستعصم [1]- وهو آخر وزراء الدّولة العبّاسية- يفاوض كلّ من يدخل عليه من العلماء مفاوضة عاقل لبيب محصّل ولم يكن له بالعلوم ملكة، ولا كان مرتاضا بها رياضة طائلة.
كان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، لكثرة مجالسة الأفاضل وخوضه في الأشعار والحكايات، يستنبط المعاني الحسنة على النّكت اللطيفة، مع أنه كان أمّيا لا يكتب ولا يقرأ.
وكان عزّ الدين عبد العزيز بن جعفر النّيسابوريّ [2]رضي الله عنه لمجالسة أهل الفضل، ولكثرة معاشرتهم له، يتنبّه على معان حسنة، ويحلّ الألغاز المشكلة أسرع منهم، ولم يكن له حظّ من علم، وما كان يظهر للناس إلا أنّه رجل فاضل وخفي ذلك حتّى على الصّاحب علاء الدين، فإن ابن الكبّوش الشاعر البصري عمل بيتين في الصاحب ونسبهما إلى عبد العزيز وهما:
عطا ملك عطاؤك ملك مصر
…
وبعض عبيد دولتك العزيز
تجازي كلّ ذي ذنب بعفو
…
ومثلك من يجازي أو يجيز
(وافر)
[1] هو محمّد بن أحمد بن العلقميّ، لقبه مؤيّد الدّين، وزير أديب أريب فاضل لآخر خلفاء العباسيين المستعصم. وثق به هولاكو بعد قتل الخليفة. توفي بعد شهور من سقوط بغداد عام/ 656/ هـ.
[2]
عزّ الدين عبد العزيز بن جعفر النيسابورىّ، والصاحب علاء الدين، وابن الكبّوش ممّن لم تترجم لهم كتب الأعلام ويبدو أنهم من معارف المؤلف والمعاصرين له أو الملازمين لذاكرته.
فأنشدهما عبد العزيز بحضرة الصاحب وادّعاهما، وخفي الأمر على الصّاحب وما أدري من أيّهما أعجب؟! أمن الصّاحب كيف خفي عنه حال عبد العزيز مع أنه السنين الطويلة يعاشره في سفر وحضر، وجدّ وهزل؟ أم من عبد العزيز كيف رضي لنفسه مثل هذه الرّذيلة، وأقدم على مثل هذا مع الصاحب وما خاف من تنبّه الصاحب واسترذاله لفعله.
وتختلف علوم الملوك باختلاف آرائهم، فأمّا ملوك الفرس: فكانت علومهم حكما ووصايا، وآدابا وتواريخ، وهندسة وما أشبه ذلك. وأما علوم ملوك الإسلام فكانت علوم اللسان، كالنّحو واللّغة، والشّعر والتواريخ، حتّى إنّ اللحن كان عندهم من أفحش عيوب الملك، وكانت منزلة الإنسان تعلو عندهم بالحكاية الواحدة وبالبيت الواحد من الشّعر، بل باللفظة الواحدة من اللغة. وأما في الدولة المغوليّة:
فرفضت تلك العلوم كلّها، ونفقت فيها علوم أخر: وهي علم السياقة والحساب لضبط المملكة وحصر الدّخل والخرج، والطّب لحفظ الأبدان والأمزجة، والنجوم لاختيار الأوقات وما عدا ذلك من العلوم والآداب فكاسد عندهم، وما رأيته نافقا إلا بالموصل في أيام ملكها المشار إليه، مدّ الله ظلّه ونشر فضله.
ومنها الخوف من الله تعالى، وهذه الخصلة هي أصل كلّ بركة، فإن الملك متى خاف الله أمنه عباد الله روي أن عليّا أمير المؤمنين- عليه السلام استدعى بصوته بعض عبيده فلم يجبه، فدعاه مرارا فلم يجبه، فدخل عليه رجل، وقال: يا أمير المؤمنين إنّه بالباب واقف، وهو يسمع صوتك ولا يكلّمك! فلمّا حضر العبد عنده، قال: أما سمعت صوتي؟ قال: بلى، قال: فما منعك من إجابتي؟ قال: أمنت عقوبتك، قال عليّ عليه السلام: الحمد للَّه الّذي خلقني ممّن يأمنه خلقه. وما أحسن قول أبي نواس [1] لهارون الرشيد:
[1] أبو نواس: الحسن بن هانئ الشاعر العبّاسي الأشهر ونديم الخليفة الرشيد. توفّي عام/ 195/ هـ.
قد كنت خفتك ثم آمنني
…
من أن أخافك خوفك الله
(كامل) ولم يكن الرّشيد يخاف الله، وأفعاله بأعيان آل عليّ، وهم أولاد بنت نبيّه لغير جرم، تدلّ على عدم خوفه من الله تعالى، ولكنّ أبا نواس جرى في قوله على عادة الشّعراء.
ومنها العفو. عن الذنوب، وحسن الصفح عن الهفوات: وهذه أكبر خصال الخير وبها تستمال القلوب، وتصلح النيات، فمما جاء في التنزيل من الحثّ على ذلك قوله تعالى شأنه: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ 24: 22 [1] ، وكان المأمون حليما حسن الصّفح معروفا بذلك، هجاه دعبل الشاعر بأشعار كثيرة من جملتها:
إنّي من القوم الذين سيوفهم
…
قتلت أخاك وشرّفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله
…
واستنقذوك من الحضيض الأوهد
فلما بلغه هذا القول لم يزد على أن قال: قاتله الله ما أشدّ بهتانه، متى كنت خاملا وفي حجر الخلافة نشأت وبدرّها أرضعت؟! ولمّا بلغه أن دعبلا قد هجاه قال من أقدم على هجاء وزيري أبي عباد [2] ، كيف لا يقدم على هجائي؟! وهذا الكلام ظاهره غير مستقيم، وهو يحتاج إلى تأويل، فإنّه عكس المعهود، قد كان ينبغي أن يقول الوزير: من أقدم على هجاء الخليفة كيف لا يقدم على هجائي ومعنى قول المأمون: أنّ من أقدم على هجاء أبي عباد مع حدّته وهوجه وتسرّعه- وكان أبو عباد كذلك- كيف لا يقدم عليّ في حلمي وصفحي؟!.
ولولا خوف الإطالة لذكرت جماعة من حلماء الملوك في هذا الموضع، ولكن ليس هذا الفصل موضوعا للسّمر وسيرد من ذلك ما يمنع- إن شاء الله- في الفصل الثاني.
[1] سورة النور، الآية/ 22/.
[2]
أبو عباد: ثابت بن يحيى بن يسار الرازيّ، هو الوزير الخامس ممّن استوزرهم الخليفة المأمون، وسوف تأتي سيرته مع وزراء المأمون.
ومنهم من يرى أنّ الحقد خصلة محمودة في الملك، قال بزرجمهر [1] :
يجب أن يكون الملك أحقد من جمل، وأنا أناظره في هذا القول فأقول: كيف يقال كذلك والملك متى كان حقودا فسدت نيته لرعيّته فمقتهم، وقلّل الالتفات إليهم بالشفقة عليهم ومتى أحسّوا بذلك تغيّرت نياتهم له، وفسدت بواطنهم، وهل يتمكّن الملك مما يريده من مهمّات مملكته، وبلوغ أغراضه كما في نفسه، إلّا بصفاء قلوب رعيّته؟ وأيّ حكمة في ذلك؟ وهل فيه سوى تنغيص عيش الملك وتبغيض رعيّته إليه، وإيحاشهم منه؟ قال شاعر العرب [2] :
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
…
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
(طويل) خصوصا والناس مركّبون على الخطأ، ومجبولون على تشمير الطباع، فما أكثر ما تصدر منهم موجبات الحقد! فلا يزال الملك طول دهره يعاني من الغيظ والحقد عليهم، ما ينغّص عليه لذّته، ويشغله عن كثير من مهام مملكته، وما أكثر ما رأينا الرعيّة أو الجند قد وثبوا على ملوكهم، فسلبوهم رداء المملكة بل رداء الحياة! فابتدئ من عمر بن الخطاب، وقد وثب عليه لؤلؤة [3] عبد المغيرة بن شعبة فقتله، ثم ثنّ بعثمان بن عفان- رضي الله عنه وانظر كيف اجتمع عليه رعيّته من كلّ جانب، فحاصروه في داره أيّاما ثم دخلوا عليه فقتلوه، والمصحف في حجره حتى قطرت قطرات من دمه على المصحف، ثم ثلث بعليّ بن أبي طالب- عليه السلام وقد ضربه عبد الرحمن بن ملجم- لعنه الله- بسيفه على أمّ رأسه
[1] بزرجمهر: ابن البختكان، وزير حكيم فارسيّ له قصة تاريخ انتساخ كتاب «كليلة ودمنة» وله حكم منثورة في كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة.
[2]
شاعر العرب: عنى به هنا المقنع الكندي، وقد اشتهر بقصيدته الفخرية الداليّة التي منها هذا البيت. اسمه محمد بن عميرة وهو من شعراء العصر الأموي توفي نحو/ 70/ هـ.
[3]
هو أبو لؤلؤة المجوسيّ الفارسيّ. انظر حدث الاغتيال في «تاريخ الخلفاء» لجلال الدين السيوطي. طبع دار القلم العربيّ بحلب ص 142. وستلي أخبار مصارع الخلفاء الراشدين في صفحات لاحقة.
بالكوفة فقتله، وكان ابن ملجم من الخوارج، هذا في الصدر الأول والناس ناس والدين دين، ثم تنقّل دولة فدولة، وأياما، فأياما، إلى أواسط دولة بني العبّاس، فانظر منذ عهد المتوكل إلى عهد المقتفي ما جرى على واحد واحد من الخلفاء من القتل والخلع والنهب، بسبب تغيّر نيات جنده ورعيّته. فهذا سمل [1] ، وذاك قتل، والآخر عزل. ثم اسرح طرفك في الدولتين البويهية والسلجوقية تر من هذا الباب عجبا. ثم ارجع البصر إلى أونكخان ملك الترك، كيف لما تنكّرت نيّته على جنكزخان [2] ، وحقد عليه أشياء عرضها عليه عنده حساده، وأراد الوقيعة به وأعلمه بذلك الصبيان فرحل من ليلته، ثم حشد وجمع ووثب على أونكخان فقتله وملك ممالكه- تعلم أن الحقد من أضرّ الأشياء للملك، وأن أوفق الأشياء له الصفح والعفو والغفران والتناسبي. وما أحسن قول القائل:
اقبل من الناس ما تيسّر
…
ودع من الناس ما تعسر
فإنّما النّاس من زجاج
…
إن لم ترفق به تكسّر
(منسرح) وقد مدح بعض الشعراء الحقد، ولم يسمع بمن مدح الحقد غير هذا، فقال:
وما الحقد إلا توأم الشّكر في الفتى
…
وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
فحيث ترى حقدا على ذي إساءة
…
فثمّ ترى شكرا على سالف الفرض
إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارع
…
من البذر فهي ناهيك من أرض
(طويل) هذا قول لا يعرج عليه. وإن عرّج عليه أحد فليعرّج عليه غير الملك، فإنّ الملك أحوج الخلق إلى استصلاح النيّات، واستصفاء القلوب.
ومن الخصال التي يستحبّ أن تكون في الملك، الكرم: وهو الأصل في استمالة القلوب، وتحصيل النصائح من العالم، واستخدام الأشراف. قال الشاعر:
[1] سمل: قلعت عينه.
[2]
جنكيزخان: مؤسس الإمبراطورية المغولية، من سلالته هولاكو وتيمور لنك. مات/ 625/ هـ.
إذا ملك لم يكن ذا هبه [1]
…
فدعه فدولته ذاهبه
(متقارب) ومما جاء في الحديث النبوي- صلوات الله على صاحبه- «تجاوزوا عن ذنب السخيّ، فإنّ الله آخذ بيده كلّما عثر، وفاتح عليه كلّما افتقر» . وقال عليّ- عليه السلام «: الجود حارس الأعراض» . واعلم أنه لم تتضمّن سيرة من حكايات الجود مثل ما نقل عن قان العادل (وهو أوكتاي بن جنكزخان) ، فإنه غبّر [2] في وجوه جميع كرام الملوك.
مناقب تفتق ما رقعتم
…
من جود كعب [3] وسماح حاتم
(رجز) ومن الاتفاقات الحسنة، وجوده في عصر المستنصر باللَّه. وكان المستنصر أكرم من الريح، ولكن أين يقع جوده من جودقان؟ ومن أين للمستنصر [4] مال يفي بعطايا قان؟.
ومنها الهيبة: وبها يحفظ نظام المملكة، ويحرس من أطماع الرعيّة. وقد كان الملوك يبالغون في إقامة الهيبة والناموس، حتى بارتباط الأسود والفيلة والنمور، وبضرب البوقات الكبار كبوق النفير، والدّباب [5] والقصع، ورفع السّناجق [6] وخفق الألوية على رءوسهم. كلّ ذلك لإثبات الهيبة في صدور الرعية، ولإقامة ناموس المملكة. كان عضد الدولة إذا جلس على سريره أحضرت الأسود والفيلة والنمور في السلاسل، وجعلت في حواشي مجلسه، تهويلا بذلك على الناس، وترويعا لهم.
[1] ذا هبة: صاحب عطاء. وفي البيت جناس بديعي واضح.
[2]
غبر في وجوههم: فاقهم وغلبهم، وهنا الغلبة في مجال الكرم.
[3]
كعب: هو كعب بن مامة من أشهر أجواد العرب بعد حاتم الطائي.
[4]
المستنصر: الخليفة العبّاسي قبل الأخير من خلفاء بغداد، عاصر أوكتاي بن جنكيزخان. توفي/ 640/. هـ.
[5]
الدّبادب: الطّبول.
[6]
السّناجق: الألوية والرايات
ومنها السّياسة: وهي رأس مال الملك، وعليها التّعويل في حقن الدماء، وحفظ الأموال، ومنع الشّرور، وقمع الدعّار [1] والمفسدين، والمنع من التظالم المؤدّي إلى الفتنة والاضطراب.
ومنها الوفاء بالعهد: قال تعالى سلطانه: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا 17: 34 [2] . وهو الأصل في تسكين القلوب، وطمأنينة النفوس، ووثوق الرعيّة بالملك إذا طلب الأمان منه خائف، أو أراد المعاهدة منه معاهد.
ومنها الاطّلاع على غوامض أحوال المملكة ودقائق أمور الرعيّة، ومجازاة المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته. كان أردشير [3] الملك يقول لمن شاء من أشراف رعيّته وأوضاعهم: كان البارحة من حالك كيت وكيت حتّى صار يقال إنّ أردشير يأتيه ملك من السّماء يخبره بالأمور. وما ذاك إلا لتيقظه وتصفّحه.
فهذه عشر خصال من خصال الخير، من كنّ فيه استحقّ الرئاسة الكبرى.
ولو نظر أصحاب الآراء والمذاهب حقّ النظر، وتركوا الهوى، لكانت هذه الشرائط هي المعتبرة في استحقاق الإمامة، وما عداها فغير طائل. وقال بزرجمهر [4] . ينبغي أن يكون الملك كالأرض في كتمان سرّه وصبره، وكالنار على أهل الفساد وكالماء في لينه لمن لاينه، وينبغي أن يكون أسمع من فرس، وأبصر من عقاب، وأهدى من قطاة، وأشدّ حذرا من غراب، وأعظم إقداما من الأسد، وأقوى وأسرع وثوبا من الفهد وينبغي للملك ألا يستبدّ برأيه وأن يشاور في الملمّات خواصّ الناس وعقلاءهم ومن يتفرّس فيه الذكاء والعقل وجودة الرّأي، وصحّة التمييز ومعرفة الأمور. ولا ينبغي أن تمنعه عزّة الملك من إيناس المستشار به وبسطه، واستمالة قلبه حتى يمحضه النّصيحة فإن أحدا لا ينصح بالقسر ولا يعطي نصيحته إلا بالرّغبة، وما أحسن قول الشاعر في هذا المعنى:
[1] الدّعّار: جمع داعر، وهو الفاسق المجاهر.
[2]
سورة الإسراء، الآية/ 34/..
[3]
أردشير: مؤسس المملكة الساسانية من الفرس. ولعلّ الكلمة تعني مطلق الملك بالفارسية.
[4]
بزرجمهر: وزير وحكيم فارسي، سبقت ترجمته.
أهان وأقصى ثم يستنصحونني
…
ومن ذا الّذي يعطي نصيحته قسرا؟!
(طويل) قال الله تعالى: وَشاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ 3: 159 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه دائما.
لمّا كانت وقعة بدر [1] خرج- صلى الله عليه وسلم من المدينة في جماعة من المسلمين، فلما وصلوا بدرا نزلوا على غير ماء، فقام إليه رجل [2] من أصحابه وقال: يا رسول الله: نزولك ها هنا شيء أمرك الله به أو هو من عند نفسك قال: بل هو من عند نفسي، قال يا رسول الله: إن الصّواب أن ترحل وتنزل على الماء فيكون الماء عندنا، فلا نخاف العطش، وإذا جاء المشركون لا يجدون ماء، فيكون ذلك معينا لنا عليهم، قال رسول الله، صدقت، ثم أمر بالرحيل، ونزل على الماء، واختلف المتكلّمون في كون الله تعالى أمر رسوله بالاستشارة، مع أنه أيّده ووفّقه، وفي ذلك أربعة وجوه: أحدها: أنّه- عليه السلام أمر بمشاورة الصحابة استمالة لقلوبهم وتطييبا لنفوسهم. والثاني: أنه أمر بمشاورتهم في الحرب ليستقرّ له الرأي الصحيح فيعمل عليه. والثالث: أنه أمر بمشاورتهم لما فيها من النفع والمصلحة. والرابع: أنه إنما أمر بمشاورتهم ليقتدي به الناس، وهذا عندي أحسن الوجوه وأصلحها. قالوا: الخطأ مع المشورة، أصلح من الصواب مع الانفراد والاستبداد، وقال صاحب كليلة ودمنة [3] :
لا بدّ لملك من مستشار مأمور يفضي إليه بسرّه، ويعاونه على رأيه، فإن المستشير- وإن كان أفضل من المستشار وأكمل عقلا وأصحّ رأيا- قد يزداد برأي المشير رأيا، كما تزداد النار بالدّهن ضوءا ونورا، قال الشاعر:
[1] انظر خبر موقعة بدر في سيرة ابن هشام أو مختصر السيرة بإعداد محمد عفيف الزعبي ص/ 122/.
[2]
هو الحباب بن المنذر. انظر مختصر السيرة ص/ 122/.
[3]
لعلّه قصد بزرجمهر الوزير الحكيم الفارسيّ، أو عبد الله بن المقفع المترجم لكليلة ودمنة عن الفارسيّة.
إذا أعوز الرأي المشورة فاستشر
…
برأي نصيح أو مشورة حازم [1]
(طويل) واعلم أنّ للملك أمورا تخصّه يتميز بها عن السوقة، فمنها: أنه إذا أحبّ شيئا أحبه الناس، وإذا أبغض شيئا أبغضه الناس، وإذا لهج بشيء لهج به الناس إمّا طبعا أو تطبّعا، ليتقربوا بذلك إلى قلبه، ولذلك قيل: الناس على دين ملوكهم فانظر كيف كان زيّ الناس في زمن الخلفاء، فلما ملكت هذه الدولة- أسبغ الله إحسانها وأعلى شأنها- غيّر الناس زيّهم في جميع الأشياء، ودخلوا في زيّ ملوكهم بالنطق واللباس، والآلات والرّسوم والآداب، من غير أن يكلّفوهم ذلك أو يأمروهم به أو ينهوهم عنه، ولكنهم علموا أن زيّهم الأوّل مستهجن في نظرهم، مناف لاختيارهم فتقرّبوا إليهم بزيّهم وما زال الملوك في كلّ زمان يختارون زيّا وفنّا، فيميل الناس إليه ويلهجون به، وهذا من خواصّ الدولة وأسرار الملك.
ومن خواصّ الملك: أن صحبته تورث التيه والكبر، وتقوّي القلب وتكبّر النفس وليس صحبة غير الملك تفعل ذلك، ومن خواصّه: أنه إذا أعرض عن إنسان وجد ذلك الإنسان في نفسه ضعفا، وإن لم ينله بمكروه، وإذا أقبل على إنسان وجد ذلك الإنسان في نفسه قوّة، وإن لم يصبه منه خير، بل مجرّد الإعراض، والإقبال يفعل ذلك، وليس أحد من الناس بهذه المنزلة غير السّلطان.
وأما الخصال التي يستحبّ أن تكون معدومة فيه: فقد ذكرها ابن المقفع في كلام له قال: ليس للملك أن يغضب، لأنّ القدرة من وراء حاجته، وليس له أن يكذب لأنه لا يقدر أحد على إلزامه بغير ما يريد، وليس له أن يبخل، لأنه أقل الناس عذرا في خوف الفقر، وليس له أن يكون حقودا، لأن قدره قد عظم عن المجازاة لأحد على إساءة صدرت منه، وليس له أن يحلف إذا حدّث، لأن الّذي يحمل الإنسان على اليمين في حديثه خلال: إمّا مهانة يجدها في نفسه واحتياج إلى
[1] البيت للشاعر العباسي بشّار بن برد. والشائع في روايته:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
…
برأي نصيح أو نصيحة حازم
وهو من قصيدة طويلة كانت في مدح إبراهيم بن عبد الله بن الحسن العلويّ، فلمّا قتل، جعلها بشّار في أبي جعفر المنصور، الخليفة العبّاسي الثاني.
أن يصدّقه الناس، وإمّا عيّ وحصر وعجز عن الكلام، فيريد أن يجعل اليمين تتمة لكلامه أو حشوا فيه، وإما أن يكون قد عرف أنه مشهور عند الناس بالكذب، فهو يجعل نفسه بمنزلة من لا يصدّق ولا يقبل قوله إلّا باليمين، وحينئذ كلّما ازداد إيمانا ازداد الناس له تكذيبا، والملك بمعزل عن هذه الدنايا كلّها، وقدره أكبر من ذلك.
ومن الخصال التي يستحبّ أن تكون معدومة في الملك: الحدّة، فإنّها ربّما أصدرت عنه فعلا يندم عليه حين لا ينفع الندم، وأكثر ما ترى الحداد من الرّجال سريعي الرّجوع، ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام:«خير أمّتي حدادها» . ومن الخصال التي يستحب عدمها في الملك: الضّجر والسّأم والملل، فذلك من أضرّ الأمور وأفسدها لحاله.
واعلم أنّ للملك على رعيّته حقوقا، وأنّ لهم عليه حقوقا، فأمّا الحقوق التي تجب للملك على رعيّته، فمنها الطاعة: وهي الأصل الّذي ينتظم به صلاح أمور الجمهور، ويتمكن به الملك من الإنصاف للضعيف من القويّ، والقسمة بالحقّ، وممّا جاء في التنزيل من الحثّ على ذلك- وهي الآية المشهورة في هذا المعنى- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59 [1] .
ومن أمثالهم: «لا إمرة لمن لا يطاع» [2] . ولم ينقل في تاريخ ولا تضمّنت سيرة من السير، أنّ دولة من الدول رزقت من طاعة جندها ورعاياها، ما رزقته هذه الدولة القاهرة المغوليّة [3] ، فإنّ طاعة جندها ورعاياها لها، طاعة لم ترزقها دولة من الدّول.
فأما الدّولة الكسرويّة [4] : فإنّها على عظمها وفخامتها، لم تبلغ ذلك، وقد
[1] سورة النساء، الآية/ 59/.
[2]
نسب القول إلى الإمام علي بن أبي طالب بعبارة: لا رأي لمن لا يطاع.
[3]
الدولة المغوليّة: عنى بها الدولة التي أسّسها جنكيزخان وامتدّت على يدي سلالته إلى بغداد وغربيّ آسيا، وحدّت توسّعها معركة عين جالوت عام/ 658/ هـ.
[4]
الدولة الكسرويّة: عنى بها الفارسية التي سمّي كلّ من ملوكها بكسرى.
كان النّعمان بن المنذر [1] ملك الحيرة نائبا لكسرى على العرب، وبين الحيرة والمدائن التي كانت سرير ملك الأكاسرة فراسخ معدودة والنّعمان في كل أيّامه قد عصا على كسرى وإذا حضر مجلسه تبسّط وتجرّأ على مجاوبته، وكان متى أراد خلع طاعته دخل البرية فأمن شرّه.
وأمّا الدّول الإسلاميّة: فلا نسبة لها إلى هذه الدولة حتّى تذكر معها، فأمّا خلافة الأربعة الأوّل: وهم أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان- رضي الله عنهم وعليّ بن أبي طالب- عليه السلام فإنّها كانت أشبه بالرّتب الدينية من الرّتب الدنيوية في جميع الأشياء، كان أحدهم يلبس الثّوب من الكرباس الغليظ، وفي رجله نعلان من ليف، وحمائل سيفه ليف، ويمشي في الأسواق كبعض الرعيّة، وإذا كلّم أدنى الرعيّة أسمعه أغلظ من كلامه، وكانوا يعدّون هذا من الدين الّذي بعث به النبيّ صلوات الله عليه وسلامه، قيل إنّ عمر ابن الخطّاب جاءته برود من اليمن ففرّقها على المسلمين فكان نصيب كلّ رجل من المسلمين بردا واحدا، وكان نصيب عمر كنصيب واحد من المسلمين، قيل:
ففصّله عمر ثم لبسه، وصعد المنبر فأمر الناس بالجهاد فقام إليه رجل من المسلمين وقال: لا سمعا وطاعة، قال لم ذلك؟ قال: لأنّك استأثرت علينا، قال عمر: بأيّ شيء استأثرت؟ قال: إن الأبراد اليمنيّة لما فرّقتها حصل لكلّ واحد من المسلمين برد منها، وكذلك حصل لك، والبرد الواحد لا يكفيك ثوبا، وتراك قد فصّلته قميصا تامّا، وأنت رجل طويل، فلو لم تكن قد أخذت أكثر منه لما جاءك منه قميص فالتفت عمر إلى ابنه عبد الله وقال: يا عبد الله أجبه عن كلامه، فقام عبد الله ابن عمر وقال: إنّ أمير المؤمنين عمر لمّا أراد تفصيل برده لم يكفه، فناولته من بردي لأتمّمه له، فقال الرّجل: أمّا الآن فالسّمع والطاعة [2] .
وهذه السّير ليست من طرز ملوك الدنيا، وهي بالنّبوّات والأمور الأخرويّة أشبه.
[1] النعمان بن المنذر أشهر ملوك الحيرة وآخرهم من العرب. كنيته أبو قابوس. مدحه النابغة الذبيانيّ. مات في سجن كسرى سنة/ 602/ م.
[2]
السمع والطاعة: لك علينا السمع والطاعة، ونصبهما وارد على تقدير آخر.
وأما خلافة بني أميّة: فكانت قد عظمت وتفخّم أمرها، وعرضت مملكتها [1] ولكنّ طاعتهم لم تكن كطاعة هؤلاء، وكان بنو أميّة في الشام، وكان بنو هاشم بالمدينة لا يلتفتون إليهم، وإذا دخل الرجل الهاشميّ على الخليفة من بني أمية أسمعه غليظ الكلام وقال له كلّ قول صعب.
وأما الدّولة العباسية: فلم تبلغ طاعة الناس لها ما بلغت هذه الدولة [2] ، مع أن مدّتها طالت حتّى تجاوزت خمسمائة سنة، ومملكتها عرضت حتّى إنّ بعضهم جبى معظم الدنيا. وستقع الإشارة إلى ذلك عند الكلام على دولة بني العبّاس.
وحاصل الدنيا في أيّام الرشيد، في حسبة جامعة تشتمل عليها كتب التواريخ- يدل على ذلك. فأما أوائلهم: فجبوا شطرا صالحا من الدنيا. وقويت شوكتهم.
كالمنصور والمهديّ والرشيد والمأمون والمعتصم والمعتضد والمتوكل. ومع ذلك لم تكن دولتهم تخلو من ضعف ووهن من عدة جهات: منها امتناع الروم عليهم، وقيام الحرب بينهم وبين ملوكها النّصارى في كلّ سنة على ساق. ومع ذلك كانت جبايتها تستصعب عليهم وملوكها لا يزالون على الامتناع منهم، وقد كان من أمر المعتصم وعمّورية ما بلغك ولعلّ طرفا منه يبلغك في هذا الكتاب: عند الكلام في الدّولة العباسية.
ومن أسباب الوهن الواقع في دولتهم خروج الخوارج في كلّ وقت. فأمّا المنصور: فلم يشرب ريقا حلوا من ذلك، وخرج عليه النّفس الزكية محمّد بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب- عليهم السلام بالحجاز فجرت بينه وبينه حروب أفضت إلى إرسال عيسى بن موسى بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس إلى الحجاز لمحاربة النّفس الزكيّة، فقتله بموضع قريب من المدينة يقال له أحجار الزّيت. وذلك في سنة كذا [3] ، ولذلك سمّي النفس الزكيّة قتيل أحجار الزّيت
[1] عرضت المملكة: اتّسعت عرضا.
[2]
هذه الدولة: عنى بها الدولة المغوليّة بعد فتح هولاكو لبغداد 656 هـ.
[3]
سنة/ 145/ هـ.
وخرج عليه أخو النّفس الزكيّة. وهو إبراهيم بن عبد الله بالبصرة فقلق المنصور لذلك غاية القلق وقام وقعد حتّى توجّه إليه عيسى بن موسى فقتله بقرية قريبة من الكوفة يقال لها باخمرى [1]رضي الله عنه ومن هاهنا حقد المنصور على العلويّين وفعل بهم تلك الأفاعيل. ولعل طرفا منها يبلغك في هذا الكتاب إذا انتهيت من الكلام إلى الدولة العبّاسيّة. وكذلك جرى أمر الخوارج مع خليفة خليفة، حتى كان الرعيّة لا ينامون في بيوتهم آمنين ولا يزالون يتوقّعون الفتنة والحرب، كما كان حال أهل قزوين في مجاورة قلاع الملاحدة.
حدّثني الملك إمام الدين يحيى بن الافتخاريّ- رضي الله عنه قال:
أذكر ونحن بقزوين إذا جاء الليل جعلنا جميع مالنا من أثاث وقماش ورحل في سراديب لنا في دورنا غامضة خفية، ولا نترك على وجه الأرض شيئا، خوفا من كبسات الملاحدة. فإذا أصبحنا أخرجنا أقمشتنا، فإذا جاء الليل فعلنا كذلك. ولأجل ذلك كثر حمل القزاونة للسكاكين وكثر حملهم للسلاح. وما زال الملاحدة على ذلك حتى كان من أمر شمس الدين قاضي قزوين، وتوجّهه إلى قان وإحضار العسكر وتخريب قلاع الملاحدة ما كان. وليس هذا الموضع موضع استيفاء الكلام في هذا، فإنه اعترض وليس بمقصود.
وكما جرى للموفّق بن المتوكّل في مرابطة الزّنج أربع عشرة سنة [2] :
ما زال يصابرهم من البصرة وواسط طول هذه المدة حتّى أفناهم، وكان لطول المدة قد ابتنى الزّنج هناك مدائن، ثم خربت وآثارها الآن باقية.
وأما أواخرهم: - أعني أواخر خلفاء بني العبّاسي- فضعفوا غاية الضعف حتى عصت تكريت عليهم، وفي ذلك يقول شاعرهم:
في العسكر المنصور نحن عصابة
…
من دولة أخسس بنا من معشر
[1] وكان مقتل إبراهيم بن عبد الله وهو أخو النفس الزكيّة، في (باخمرى) بالقرب من الكوفة عام 145 هـ، أيضا.
[2]
وقعت ثورة الزنج في عهد المعتمد واستمرت في البصرة وما حولها مدة أربع عشرة سنة/ 256- 270/ هـ إلى أن أخضعها الموفق أخو المعتمد.
خذ عقلنا من عقدنا فيما ترى
…
من خسّة ورقاعة وتهوّر
تكريت [1] تعجزنا ونحن بعقلنا
…
نمضي لنأخذ ترمذا [2] من سنجر [3]
(كامل) وكانوا- أعنى المتأخّرين من خلفاء بني العبّاس- قد اقتصروا في آخر الأمر على مملكة العراق فحسب، حتى إن ((إربل [4] ، لم تكن في حكمهم.
وما زالت خارجة عن حكمهم إلى أن مات مظفر الدين بن زين الدين عليّ كوجك صاحب إربل وذلك في أيام المستنصر [5] ، فعيّن عليّ شرف الدين إقبال الشّرابي، وكان مقدّم الجيوش ليتوجه إلى إربل ليفتحها، وجهزه بالعساكر فتوجّه الشرابي اليها وأقام عليها أياما محاصرا ثم فتحها فضربت البشائر ببغداد يوم وصول الطائر بفتحها. فانظر الى دولة تضرب البشائر على أبواب صاحبها، ويزيّن البلد لأجل فتح قلعة إربل، التي هي اليوم في هذه الدولة من أحقر الأعمار وأصغرها وأهونها بلى قد كان ملوك الأطراف، مثل ملوك الشام ومصر وصاحب الموصل، يحملون إليهم في كل سنة شيئا على سبيل الهديّة والمصانعة ويطلبون منهم تقليدا بولاية بلادهم، بحيث يتسلّطون بذلك على رعيتهم، ويوجبون عليهم طاعتهم بذلك السبب ولعل الخلفاء قد كانوا يعوّضون ملوك الأطراف عن هداياهم بما يناسبها، أو يفضل عنها كلّ ذلك لحفظ الناموس الظاهر، وليكون لهم في البلاد والأطراف السكّة والخطبة، حتى صار يضرب مثلا لمن له ظاهر الأمر وليس له من باطنه شيء أن يقال قنع فلان من الأمر الفلاني بالسكّة والخطبة، يعنى قنع منه بالاسم دون الحقيقة فهذه جمل من أحوال الدولة العباسية.
[1] تكريت: مدينة على نهر دجلة شمالي سامرّاء، وكنّى بها الشاعر عن قرب المسافة.
[2]
ترمذ: مدينة في أوزبكستان على حدود أفغانستان، كنّى بها عن بعد المسافة عن بغداد.
[3]
سنجر: آخر سلاطين السلاجقة الكبار. كانت نهايته على أيدي قبائل الغزّ، وبذا انحطت السلطنة السلجوقية. وكنى به الشاعر عن الصولة والسلطان.
[4]
إربل: مدينة تاريخية في شمال العراق، تعرف اليوم بأربيل.
[5]
المستنصر، بويع بالخلافة 623 هـ ومات/ 640/ هـ وهو الخليفة قبل الأخير من خلفاء الدولة العباسية. وكان كريما متلافا.
وأما الدولتان البويهية [1] والسلجوقية [2] : فلم تعرض مملكتهما مع قوة شوكة ملوكهما كعضد الدولة في بني بويه، وطغرلبك في بني سلجوق، ولم تعمّ طاعتهما ولم يشمل ملكهما. وأما الدولة الخوارزمشاهية: - مع أن جريدة السلطان جلال الدين اشتملت على أربعمائة ألف مقاتل- فلم يعرض ملكها أيضا، ولا تجاوزت النواحي القريبة منها، بل جلال الدين غزا أطراف الهند.
ومن الحقوق الواجبة للملك على الرعيّة التّعظيم والتّفخيم لشأنه في الباطن والظاهر وتعويد النفس ذلك ورياضتها بحيث تصير ملكة مستقرة، وتربية الأولاد على ذلك وتأديبهم به ليتربى هذا المعنى معهم.
وها هنا موضع حكاية: وهي أنّ سلطان هذا العصر- ثبّت الله قواعد دولته وبسط في الخافقين ظلّ معدلته- لما ورد إلى بغداد في سنة ثمان وتسعين وستمائة دخل المستنصرية [3] لمشاهدتها والتفرج فيها. وكانت قبل وروده إليها قد زينت وجلس المدرسون على سددهم، والفقهاء بين أيديهم، في أيديهم أجزاء القرآن وهم يقرءون منها، فاتفق أن الرّكاب السلطاني بدأ بالاجتياز على طائفة الشافعيّة، ومدرّسها الشيخ جمال الدين عبد الله بن العاقوليّ، وهو رئيس الشافعيّة ببغداد، فلما نظروا إليه قاموا قياما فقال للمدرّس المذكور: كيف جاز أن تقوموا لي وتتركوا كلام الله؟ فأجاب المدرّس بجواب لم يقع بموقع الاستصواب في الحضرة السّلطانية- أعلى الله في الدنيا كلمتها وفي الآخرة درجتها- ثم بعد ذلك حكي لي المدرس المذكور صورة السؤال والجواب فأما السؤال: فهو ما حكيته، وأمّا جوابه فلم
[1] الدولة البويهية: أسسها أبو شجاع بويه، وأولاده الثلاثة، عماد الدولة وركن الدولة ومعزّ الدولة، حكمت في أصفهان وشيراز وكرمان وبغداد. من أقوى ملوكها عضد الدولة. قضى عليها طغرل بك السلجوقي/ 447/ هـ.
[2]
الدولة السلجوقية: أحلّت نفوذ السلاجقة في بغداد، وهم من أسرة تركمانية جدّها سلجوق، قضت على نفوذ البويهيين وقضى عليها جنكيزخان وخلفاؤه ومنهم هولاكو.
[3]
المستنصرية: ضاحية معمورة من ضواحي بغداد، شيّدها الخليفة المستنصر/ 623- 640/ هـ. وفيها قصور وقنطرة وخان حربي لارتباط الخيل والفرسان. وقد سبق ذكرها.
أضبطه، وقلت له: قد كان يمكن أن يقال في جواب هذا السؤال: إنّ تركنا للمصحف إن كان في أيدينا، واشتغالنا بغيره لم يحرّم علينا في شريعتنا، ولا جعل علينا في ذلك حرج، ثم إنّ هذا المصحف الّذي تركناه وقمنا بين يدي السّلطان، قد أمرنا فيه بتعظيم سلاطيننا.
ومن الحقوق الواجبة للملك على رعيته: النصيحة، فمما جاء في الحديث- صلوات الله وسلامه على من نسب إليه- قوله صلى الله عليه وسلم:
«الدين النصيحة» ، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: «للَّه ولرسوله ولجماعة المسلمين» . ومنها ترك اغتياب الملك في ظهر الغيب، قال صلى الله عليه وسلم:«لا تسبّوا الولاة، فإنّهم إن أحسنوا، كان لهم الأجر وعليكم الشكر، وإن أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، وإنّما هم نقمة ينتقم الله بها ممّن يشاء، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحميّة والغضب، واستقبلوها بالاستكانة والتضرّع» . وأما الحقوق الواجبة للرعيّة على الملك فمنها: حماية البيضة [1] ، وسدّ الثّغور وتحصين الأطراف، وأمن السّوابل، وقمع الدعّار [2] ، فهذه حقوق تلزم السلطان تجري مجرى الفروض الواجبة، وبهذه الأمور تجب طاعته على رعيّته وبنحو من هذا احتجّ الخوارج على أمير المؤمنين عليّ- عليه السلام عقيب انقضاء حرب صفّين قالوا له: أنت فرّطت في حفظ هذا الثغر- يعني ثغر الشأم- بتحكيمك الحكمين، فأنت مخطئ مفرّط، فليس لك علينا طاعة: فإن اعترفت بهذا الخطأ واستغفرت رجعنا إلى طاعتك، وقاتلنا معك العدوّ. فعرّفهم- عليه السلام أنه غلب رأيه في قضية التحكيم وأن التحكيم لم يكن رأيه فأصرّوا على قولهم ولم يقبلوا ونابذوه وقاتلوه، حتى كانت الوقعة المشهورة بالنّهروان.
[1] البيضة: في الأصل، الخوذة. وحماية البيضة: كناية عن حماية شرف الأمّة وعزّتها.
[2]
الدعار: مرتكبو الفواحش، والدّعارة.
ومن الحقوق الواجبة للرعية على الملك: الرّفق بهم، والصّبر على صادرات هفواتهم، قال صلوات الله عليه وسلامه:«ما كان الرّفق في شيء إلا زانه ولا كان الخرق [1] في شيء إلا شانه» وقد روي عنه- صلوات الله عليه وسلامه: «من الرّفق أشياء لا تليق إلا بمنصب النبوّة» كان صلاح الدين يوسف ابن أيوب صاحب مصر والشأم، كثير الرّفق موصوفا به. دخل مرّة الحمام عقيب مرضة طويلة أضعفته وانتهكت قوته فأدخل الحمّام وهو في غاية من الضّعف، فطلب من مملوك كان واقفا على رأسه ماء حارا فأحضر له في طاسة ماء شديد الحرارة، فلما قرب منه اضطربت يد المملوك فوقعت الطاسة عليه فأحرق الماء جسده، فلم يؤاخذه ولا بكلام. ثم طلب منه بعد ذلك بساعة ماء باردا. فأحضر له في تلك الطاسة ماء شديد البرد، فحين قرب منه اتفق له ما اتفق في المرّة الأولى، من اضطراب يده ووقوع الطاسة عليه، بذلك المساء الشديد البرد فغشي عليه وكاد يموت، فلما أفاق قال للملوك إن كنت تريد قتلي فعرّفني. ولم يزد على هذه الكلمة رضي الله عنه . قيل: تقدّم رجل أبخر [2] إلى بعض الرؤساء يشاوره فقال له تنحّ عنّي فقد آذيتني. قال الرجل: لا كرامة لا عزازة. ما رأسناك وقمنا بين يديك إلا حتى تحتمل منا ما هو أشدّ من هذا وتصبر منّا على ما هو أعظم منه. وممّا يجب للرعيّة على الملك: ردع قويّهم عن ضعيفهم، وإنصاف ذليلهم من عزيزهم وإقامة الحدود [3] فيهم، وإقرار حقوقهم مقارها، وإغاثة ملهوفهم، وإجابة مستصرخهم، والتسوية في حكمه بين الأبعد منهم والأقرب، والأذلّ والأعزّ. قال عمر بن الخطّاب لرجل: إني لا أحبك قال: فتنقصني من حقّي شيئا؟ قال عمر:
لا. قال الرجل: فما يفرح بالحبّ بعد هذا إلا النساء!.
ويجب للملك أن يعرف نعمة الله عليه بأن اصطفاه لهذه المرتبة العلية دون سائر الخلق، وبأن جعله يفزع منه كلّ أحد ولم يجعله يفزع من أحد، فلا يزال لها
[1] الخرق: ضدّ الرّفق، الغلظة والطيش.
[2]
الأبخر: كريه رائحة الفم، أو النّفس.
[3]
إقامة الحدود: إيقاع العقوبات الشرعيّة على المذنبين.
ذاكرا شاكرا. فأمّا الذكر: فلامتثال قوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 93: 11 [1] .
وأما الشكر: فلطلب المزيد لقوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ 14: 7 [2] .
ويجب أن يكون بينه وبين ربه معاملة سريّة لا يعلم بها إلا الله، فتلك المعاملة تقي مصارع السوء، وهذه العبارة مقبولة عند جميع أصحاب الملل، وعند الحكماء أيضا هي مقبولة، ويمكن تأويلها على هذا المطلوب بحسب اعتقادهم.
ويجب أن يكون له دعوات يناجي بها ربّه، وهي دعوات تليق بالملوك ولا تصلح للعوامّ، ولا بأس ان أثبت في هذا الموضع فصلا من الدعاء الملكي. وهذا مما اقترحته أنا ولم أعلم أن أحدا تنبّه عليه.
[1] سورة الضحى، الآية/ 11/.
[2]
سورة إبراهيم، الآية/ 7/.