الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي هذه الوصيّة دليل على ما سبق من وفور رغبته في تدبير الملك، وشدّة كلفه بالرّياسة.
ثمّ ملك بعده ابنه يزيد
كان موفّر الرغبة في اللهو والقنص، والخمر والنّساء والشّعر، وكان فصيحا كريما شاعرا مفلقا [1] . قالوا: بدئ الشّعر بملك، وختم بملك. إشارة إلى امرئ القيس وإليه، فمن شعره:
جاءت بوجه كأنّ البدر برقعة [2]
…
نورا على مائس [3] كالغصن معتدل
إحدى يديها تعاطيني [4] مشعشعة [5]
…
كخدّها عصفرته [6] صبغة الخجل
ثمّ استبدّت وقالت، وهي عالمة
…
بما تقول وشمس الراح لم تفل [7]
لا ترحلنّ فما أبقيت من جلدي
…
ما أستطيع به توديع مرتحل
ولا من النّوم ما ألقى الخيال به
…
ولا من الدّمع ما أبكي على الطلل
كانت ولايته على أصحّ القولين ثلاث سنين وستّة أشهر. ففي السنة الأولى قتل الحسين بن عليّ عليهما السلام، وفي السنة الثانية نهب المدينة وأباحها ثلاثة أيّام وفي السنة الثالثة غزا الكعبة.
فنبدأ بشرح قتل الحسين عليه السلام.
شرح كيفيّة الحال في ذلك على وجه الاختصار
هذه قضيّة لا أحبّ بسط القول فيها استعظاما لها واستفظاعا، فإنّها قضيّة لم يجر في الإسلام أعظم فحشا منها. ولعمري إنّ قتل أمير المؤمنين- عليه السلام هو الطامّة الكبرى، ولكنّ هذه القضيّة جرى فيها من القتل الشنيع والسيء، أو
[1] الشاعر المفلق: الحاذق في نظمه وصنعته.
[2]
برقعة: جعل له برقعا. غطّاه.
[3]
المائس: الميّال الغض، وقصد به القدّ.
[4]
تعاطيني: تناولني الشراب أو الكأس.
[5]
المشعشعة: الممزوجة.
[6]
عصفرته: صبغته بلون العصفر. والعصفر: صبغ أصفر اللون ومورّد.
[7]
لم تفل: لم تأفل، لم تغب.
التمثيل ما تقشعرّ له الجلود. واكتفيت أيضا عن بسط القول فيها بشهرتها، فإنّها أشهر الطامّات. فلعن الله كلّ من باشرها وأمر بها، ورضي بشيء منها ولا تقبّل الله منه صرفا ولا عدلا وجعله من الأخسرين أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً 18: 103- 104 [1] . وجملة ما جرى في ذلك:
أن يزيد- لعنه الله- لمّا بويع لم يكن له همّ إلا تحصيل بيعة الحسين- رضي الله عنه والنّفر الّذي حذّره أبوه منهم. فأرسل إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو يومئذ أمير المدينة، يأمره بأخذ البيعة عليهم. فاستدعاهم فحضر الحسين- عليه السلام عنده، فأخبره بموت معاوية- رضي الله عنه ودعاه إلى البيعة.
فقال له الحسين- عليه السلام «مثلي لا يبايع سرّا، ولكن إذا اجتمع الناس، نظرنا ونظرت» ثم خرج الحسين- عليه السلام من عنده وجمع أصحابه، وخرج من المدينة قاصدا مكّة متأبيا من بيعة يزيد، آنفا من الانخراط في زمرة رعيّته. فلمّا استقرّ بمكّة اتّصل [2] بأهل الكوفة تأبيه من بيعة يزيد وكانوا يكرهون بني أميّة، خصوصا يزيد، لقبح سيرته ومجاهرته بالمعاصي، واشتهاره بالقبائح.
فراسلوا الحسين- عليه السلام وكتبوا إليه، يدعونه إلى قدوم الكوفة ويبذلون له النّصرة على بني أميّة. واجتمعوا وتحالفوا على ذلك، وتابعوا الكتب إليه في هذا المعنى. فأرسل إليهم ابن عمّه مسلم [3] بن عقيل بن أبي طالب- رضي الله عنه فلمّا وصل إلى الكوفة فشا الخبر إلى عبيد الله بن زياد [4]- لعنه الله وأحلّه دار الخزي- وكان يزيد قد أمّره على الكوفة، حين بلغه مراسلة أهلها الحسين- عليه السلام وكان مسلم قد التجأ إلى دار هانئ بن عروة [5]رضي الله عنه
[1] سورة الكهف، الآية/ 104/.
[2]
اتّصل بهم تأبيه: أي بلغهم امتناعه ورفضه لبيعة يزيد بن معاوية.
[3]
مسلم بن عقيل: تابعيّ ذو رأي وشجاعة انتدبه الحسين بن علي للذهاب إلى الكوفة حين راسله أهلها بالبيعة بالخلافة. شعر به عبد الملك بن زياد أمير الكوفة الموالي ليزيد بن معاوية فطلبه حتى قتله عام/ 60/ هـ.
[4]
عبيد الله بن زياد: هو ابن زياد بن أبيه الّذي نماه معاوية إلى أبي سفيان فآخاه.
[5]
هانئ بن عروة: أحد سادات الكوفة وأشرافها من خواص عليّ بن أبي طالب، خالف معاوية في بعض أمره، ولكنّه قتل على يد عبيد الله بن زياد لإيوائه مسلم بن عقيل.
وكان من أشرف أهل الكوفة، فاستدعاه عبيد الله بن زياد، فطلبه منه فأبى، فضرب وجهه بالقضيب فهشّمه، ثمّ أحضر مسلم بن عقيل- رضي الله عنهما فضربت عنقه فوق القصر فهوى رأسه، وأتبع جثته رأسه. وأمّا هانئ: فأخرج إلى السوق فضربت عنقه. وفي ذلك يقول الفرزدق [1] :
وإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري
…
إلى هانئ في السّوق وابن عقيل
إلى بطل قد هشّم السّيف وجهه
…
وآخر يهوي من طمار [2] قتيل
ثمّ إنّ الحسين- عليه السلام خرج من مكّة متوجّها إلى الكوفة، وهو لا يعلم بحال مسلم فلمّا قرب من الكوفة علم بالحال، ولقيه ناس فأخبروه الخبر وحذّروه فلم يرجع، وصمّم على الوصول إلى الكوفة لأمر هو أعلم به من النّاس.
فأرسل ابن زياد إليه عسكرا أميره عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فقاتل الحسين- عليه السلام وأصحابه حين التقى الجمعان، قتالا لم يشاهد أحد مثله، حتى فني أصحابه، وبقي هو عليه السلام وخاصّته، فقاتلوا أشدّ قتال رآه الناس. ثم قتل الحسين- عليه السلام قتلة شنيعة. ولقد ظهر منه- عليه السلام من الصّبر والاحتساب والشّجاعة والورع والخبرة التامّة بآداب الحرب والبلاغة، ومن أهله وأصحابه- رضي الله عنهم من النّصر له، والمواساة بالنّفس، وكراهية الحياة بعده، والمقاتلة بين يديه عن بصيرة- ما لم يشاهد مثله. ووقع النهب والسّبي في عسكره وذراريه- عليه السلام ثم حمل النّساء ورأسه- صلوات الله عليه- إلى يزيد بن معاوية بدمشق، فجعل ينكت ثنايا [3] الحسين- عليه السلام بالقضيب، ثم ردّ نساءه إلى المدينة.
وكان قتل الحسين- عليه السلام في يوم عاشوراء [4] ، من سنة إحدى وستين.
[1] ونسب البيتان إلى شاعر آخر هو عبد الله بن الزّبير الأسدي. انظر الأعلام ج 8 ص/ 68/.
[2]
طمار قتيل: علوّ قامة القتيل.
[3]
الثنايا: مقدّمة الأسنان في الفم.
[4]
عاشوراء: العاشر من المحرّم، وهو الشهر الأوّل من شهور السنة القمريّة.