الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح كيفيّة الحال في بناء بغداد
كان المنصور قد بنى في أوائل دولتهم مدينة بنواحي الكوفة وسمّاها- «الهاشميّة» - ووقعت واقعة الرّاونديّة فيها، فكره سكناها لذلك، ولمجاورة أهل الكوفة فإنّه كان لا يأمنهم على نفسه، وكانوا قد أفسدوا جنده.
فخرج بنفسه يرتاد بغداد كما بناها أبو جعفر المنصور، نقلا عن مذكرات جامعية للمحقق عام/ 1955/ م، ممّا رسمه الدكتور شاكر مصطفى لطلابه على سبورة قائمة المحاضرات في كلية الآداب في الجامعة السورية بدمشق.
له موضعا يسكنه ويبني فيه مدينة له ولعياله، ولأهله ولجنده. فانحدر إلى جرجرايا [1] وأصعد إلى الموصل، ثمّ أرسل جماعة من الحكماء ذوي اللبّ والعقل وأمرهم بارتياد موضع، فاختاروا له مدينته التي تسمّى: مدينة المنصور. وهي بالجانب الغربيّ قريبة من مشهد موسى والجواد- عليهما السلام فحضر إلى هناك واعتبر [2] المكان ليلا ونهارا فاستطابه، وبنى به المدينة.
ومن طريف ما اتّفق من ذلك، أنّ راهبا من رهبان الدير المعروف بدير الرّوم سأل بعض أصحاب المنصور: من يريد أن يبني في هذا الموضع مدينة؟
فقال له ذلك الرجل: أمير المؤمنين المنصور خليفة الناس. قال: ما اسمه؟ قال:
عبد الله. قال: فهل له اسم غير هذا؟ قال: اللَّهمّ لا، إلا أن كنيته أبو جعفر، ولقبه المنصور. قال الراهب: فاذهب إليه وقل له: لا يتعب نفسه في بناء هذه المدينة، فإنّا نجد في كتبنا أن رجلا اسمه مقلاص يبني ها هنا مدينة ويكون لها شأن من الشأن، وأنّ غيره لا يتمكّن من ذلك. فجاء ذلك الرّجل إلى المنصور وأخبره بما قال الرّاهب فنزل المنصور عن دابّته وسجد طويلا ثمّ قال: أما والله كان اسمي مقلاصا وكان هذا اللقب قد غلب عليّ ثمّ ذهب عنّي.
وذاك أنّ لصّا كان في صباي يسمّى مقلاصا وكان تضرب به الأمثال، وكانت لنا عجوز تربيني، فاتّفق أنّ صبيان المكتب جاءوا يوما إليّ وقالوا لي:
نحن اليوم أضيافك. ولم يكن معي ما أنفقه عليهم. وكان للعجوز غزل فأخذته وبعته بما أنفقته عليهم، فلمّا علمت أني سرقت غزلها سمّتني مقلاصا. وغلب هذا اللقب عليّ ثمّ ذهب عنّي. والآن عرفت أني أبني هذه المدينة.
ونبّهه بعض عقلاء النّصارى على فضيلة مكانها فقال: يا أمير المؤمنين تكون على الصّراة بين دجلة مع الفرات، فإذا حاربك أحد كانت دجلة والفرات خنادق لمدينتك ثمّ إنّ الميرة [3] تأتيك في دجلة من ديار بكر [4] تارة، ومن البحر
[1] جرجرايا: موقع جنوبي بغداد على دجلة.
[2]
اعتبر: فحص وتحرّى.
[3]
الميرة: الطّعام والمئونة المدّخرة.
[4]
ديار بكر: بلاد شرقيّ الأناضول وشماليّ دجلة.
والهند والصّين والبصرة، وفي الفرات من الرقّة والشأم، وتجيئك الميرة أيضا من خراسان وبلاد العجم في شطّ تامرّا. وأنت يا أمير المؤمنين: بين أنهار، لا يصل عدوّك إليك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر أو أخربت القنطرة، لم يصل إليك عدوّك. وأنت متوسّط للبصرة والكوفة، وواسط والموصل والسّواد.
وأنت قريب من البرّ والبحر والجبل. فازداد المنصور جدّا وحرصا على بنائها، وكاتب الأطراف بإنفاذ [1] الصنّاع والفعلة وأمر باختيار قوم من ذوي العدالة والعقل والعلم والأمانة والمعرفة بالهندسة ليتولّوا قسمة المدينة وعملها، وشرع فيها سنة خمس وأربعين ومائة.
وكان أبو حنيفة [2]رضي الله عنه صاحب المذهب يعدّ اللّبن والآجرّ وهو الّذي اخترع عدّه بالقصب اختصارا وجعل المنصور عرض السّور من أساسه خمسين ذراعا، ومن أعلاه عشرين ذراعا، ووضع بيده أوّل لبنة وقال: بسم الله والحمد للَّه إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها من يَشاءُ من عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.. 7: 128 [3] ثمّ قال: ابنوا فابتدأ بها سنة خمس وأربعين ومائة، وتمّمها في سنة ستّ وأربعين ومائة، وجعلها مدوّرة وجعل قصره في وسطها لئلا يكون أحد أقرب إليه من الآخر. وبلغ الخرج عليها أربعة ألف ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثين درهما. ولما فرغت حاسب القوّاد بما كان حوّل عليهم لعمارتها، فألزمهم بالبواقي حتّى استوفى من بعضهم ما اقتضاه الحساب خمسة عشر درهما.
أسماؤها: يقال: بغداد، وكان هناك موضع يسمى: بغداد فسمّيت المدينة باسمه ويقال: بغداذ بالذال المعجمة، ويقال بغدان بالنون، ويقال: الزّوراء وكان موضعها يسمّى الزوراء قديما، وقيل: لأن قبلتها غير مستقيمة، ويحتاج المصلّى في مسجدها الجامع أن ينحرف إلى جهة اليسار قليلا. ويقال: مدينة المنصور.
[1] إنفاذ: إرسال.
[2]
أبو حنيفة: نعمان بن ثابت، إمام المذهب الحنفي. كانت ولادته بالكوفة وقد درّس فيها وأفتى. استدعاه المنصور لتولي القضاء في بغداد فأبى فحبسه حتى مات عام/ 150/ هـ.
[3]
الآية 128 من سورة الأعراف.
ويقال: دار السّلام. وقيل: إنّها مدينة مباركة مسعودة، لم يمت فيها خليفة قطّ.
فمدينة المنصور هي بغداد القديمة، وهذه بغداد التي هي بالجانب الشرقيّ، استجدّت بعد ذلك.
وهو الّذي فعل ببني الحسن ما فعل- أخذ مشايخ السادات منهم- وهم عبد الله المحض بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب- عليهم السلام وكان شيخ الطالبيّين في عصره، وبنيه وإخوته سادات بني الحسن- عليهم السلام فحبسهم عنده وماتوا في حبسه.
روي أنه خرج حاجبه فقال: من كان على الباب من بني الحسين فليدخل فدخل مشايخ بني الحسين عليهم السلام ثمّ خرج فقال: من كان بالباب من بني الحسن فليدخل. فدخل مشايخ بني الحسن عليهم السلام فعدل بهم إلى مقصورة ثم أدخل الحدّادين من باب آخر فقيّدهم وحملهم إلى العراق فحبسهم حتّى ماتوا في حبسه من الكوفة، لا جزاه الله خيرا عن فعله.
ومن طريف ما وقع في ذلك، أنّ رجلا من بني الحسن- عليه السلام جاء حتّى وقف على المنصور، فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت حتّى تحبسني عند أهلي فإنّي لا أريد الدّنيا بعدهم، فحبسه معهم. وكان ذلك الرجل عليّ بن حسن بن حسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب. وكان منهم محمّد بن إبراهيم بن الحسن ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب.عليهم السلام وكان من أحسن الناس صورة، وكان يسمّى الديباج الأصفر لحسنه وجماله فأحضره المنصور وقال له:
أنت الدّيباج الأصفر؟ قال: كذا يقولون. قال: لأقتلنّك قتلة لم أقتلها أحدا، ثمّ أمر به فبنى عليه أسطوانة وهو حيّ، فمات فيها.