الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبي طالب لا يبرز له أحد إلا قتله؟!.
وقال معاوية يوما لجلسائه: ما أعجب الأشياء؟ فقال يزيد: أعجب الأشياء هذا السّحاب الراكد بين السماء والأرض، لا يدعمه شيء من تحته، ولا هو منوط بشيء من فوقه. وقال أخر: أعجب الأشياء حظّ يناله جاهل، وحرمان يناله عاقل. وقال آخر: أعجب الأشياء ما لم ير مثله. وقال عمرو بن العاص: أعجب الأشياء أن المبطل يغلب المحقّ (يعرّض بعليّ عليه السلام ومعاوية) فقال معاوية بل أعجب الأشياء أن يعطى الإنسان ما لا يستحقّ إذا كان لا يخاف. (يعرض بعمرو ومصر) فنفث كلّ منهما بما في صدره من الآخر!.
واعلم أنّ معاوية كان مربّي دول، وسائس أمم، وراعي ممالك. ابتكر في الدولة أشياء لم يسبقه أحد إليها، منها: أنّه أوّل من وضع الحشم للملوك، ورفع الحراب بين أيديهم، ووضع المقصورة التي يصلّي الملك أو الخليفة بها في الجامع منفردا من الناس. وذلك لخوفه ممّا جرى لأمير المؤمنين- عليه السلام فصار يصلّي منفردا في مقصورة، فإذا سجد قام الحرس على رأسه بالسيوف. وهو أوّل من وضع البريد لوصول الأخبار بسرعة.
كلام في معنى البريد
البريد: أن يجعل خيل مضمرات في عدّة أماكن، فإذا وصل صاحب الخبر المسرع إلى مكان منها، وقد تعب فرسه، ركب غيره فرسا مستريحا. وكذلك يفعل في المكان الآخر حتّى يصل بسرعة. وأمّا معناه اللغويّ: فالبريد هو اثنا عشر ميلا. وأظنّ أن الغاية التي كانوا قدّروها بين بريد وبريد، هي هذا القدر.
وقال الصاحب علاء الدين عطا ملك في جهان كشاي: «ومن جملة الأشياء وضعهم البريد بكلّ مكان طلبا لحفظ الأموال، وسرعة وصول الأخبار ومتجدّدات الأحوال» وما أرى للبريد فائدة سوى سرعة وصول الأخبار فأمّا حفظ الأموال: فأيّ تعلّق له بذلك؟!.
وممّا اخترع معاوية- رضي الله عنه من أمور الملك: ديوان الخاتم.
وهذا ديوان معتبر من أكبر الدواوين، ولم تزل السنّة جارية به إلى أواسط دولة بني العبّاس فأسقط، ومعناه: أن يكون ديوان، وبه نوّاب فإذا صدر توقيع من الخليفة بأمر من الأمور، أحضر التوقيع إلى ذلك الديوان، وأثبتت نسخته فيه، وحزم بخيط وختم بشمع- كما يفعل في هذا الزمان بكتب القضاة- وختم بخاتم صاحب ذلك الديوان.
وكان الّذي حمل معاوية- رضي الله عنه على اختراع هذا الديوان، أنّه أحال رجلا على زياد بن أبيه أمير العراق بمائة ألف درهم، فمضى ذلك الرجل وقرأ الكتاب (وكانت تواقيعهم تصدر غير مختومة فجعل المائة مائتين) فلما رفع زياد حسابه إلى معاوية- رضي الله عنه أنكر معاوية ذلك، وقال: ما أحلته إلا بمائة ألف، ثم استعادها منه ووضع ديوان الخاتم، فصارت التواقيع تصدر منه مختومة، لا يدري أحد ما فيها، ولا يتمكّن أحد من تغييرها. وكان معاوية- رضي الله عنه مصروف الهمّة إلى تدبير أمر الدنيا، يهون عليه كلّ شيء إذا انتظم أمر الملك. فانظر إلى وصف عبد الملك بن مروان له، فإنه لحظ فيه هذا المعنى. قالوا: إنّ عبد الملك بن مروان مرّ بقبر معاوية- رضي الله عنه فترحّم عليه، فقال له رجل: قبر من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: «قبر رجل كان والله فيما علمته ينطق عن علم، ويسكت عن حلم. كان إذا أعطى أغنى وإذا حارب أفنى» ووصفه أيضا عبد الله بن العباس- وكان من النقّاد- فقال: «ما رأيت أليق من أعطاف [1] معاوية بالرّياسة والملك» . وقال له بعض بني أمية: «والله لو قدرت أن تستكثر [2] بالزّنج لاستكثرت بهم لينتظم لك أمر الملك» .
وكان معاوية- رضي الله عنه نهما شحيحا عند الطّعام، على كرمه وسماحته. فأمّا نهمّه. فقالوا: إنه كان يأكل في كلّ يوم خمس أكلات أخرهنّ
[1] الأعطاف: الأكتاف، وهي أبرز مواضع الثوب من البدن.
[2]
تستكثر: تكثّر أعوانك وجندك.
أغلظهنّ [1]، ثمّ يقول: يا غلام: ارفع فو الله ما شبعت، ولكن مللت. وروي أنه أصلح له عجل مشويّ فأكل معه دستا [2] من الخبز السّميذ [3] ، وأربع فراني [4] وجديا حارا، وآخر باردا سوى الألوان ووضع بين يديه مائة رطل من الباقلى [5] الرّطب فأتى عليه وأما شحّه على الأكل: فإنّ ابن أبي بكرة دخل عليه ومعه ابنه، فجعل ابنه يأكل أكلا مفرطا، ومعاوية يلحظه وفطن ابن أبي بكرة لحنق معاوية- رضي الله عنه ففي الغد حضر الأب وليس معه ابنه، فقال له معاوية: ما فعل ابنك؟ قال: يا أمير المؤمنين: انحرف مزاجه. قال: قد علمت أنّ تلك الأكلة ما كانت تتركه حتى تهيضه وها هنا موضع حكاية حسنة، تدلّ على كرم ومروءة ونبل: كان بعض الوزراء مشغوفا بالأكل، ويحب كلّ من يأكل معه وكلّ من كان أكثر أكلا كان أقرب إلى قلبه فاتّفق أنه قصده بعض الأكابر من العلويّين وكل عليه [6] وجوها من خراج وضمان وغير ذلك، وطلبه بها، فوكل عليه في نفس داره أعني دار الوزير. ففي بعض الأيّام مدّ السّماط بين يدي الوزير، فقال العلويّ للموكلين به: إنّي جائع، فهل تأذنون أن أخرج إلى السّماط وأنتم معي، فآكل وأعود إلى هذا الموضع؟ وكان العلويّ قد فطن لطبع الوزير في ذلك، فاستحيوا منه، وأذنوا له في ذلك فخرج، وجلس في أخريات السّماط وجعل يأكل بينهم فلحظه الوزير وهو مقبل على الأكل، فاستدناه ورفعه إلى صدر المجلس وقدّم له من أطائب ذلك الطعام. ولما بالغ في الأكل زادت بشاشة الوزير وطلاقته. فلمّا رفع الطعام استدعى الوزير كانونا فيه نار، وأحضر الحساب الّذي رفع على الرجل به، وقال: أيّها السيّد: قد أراحك الله من هذا المال، وأنت في
[1] أغلظ الأكلات: أدسمها وأثقلها على المعدة.
[2]
دستا: مجموعة، والكلمة فارسية آلت إلى دستة في الاستعمال الدارج.
[3]
السّميذ: الدقيق الأبيض.
[4]
الفرانيّ: أقراص الخبز السّميك المستدير.
[5]
الباقلّى: القول.
[6]
وكل عليه: فرض عليه.
حلّ منه وو الله وحقّ جدّك- صلوات الله عليه- ليس عندي بهذا الحساب ولا في الديوان به غير هذه النّسخة. ثم ألقاها في الكانون فاحترقت وأفرج عنه وأذن له في الرّواح إلى منزله.
وكانت وفاة معاوية رضي الله عنه في سنة ستّين من الهجرة. ولما أدركته الوفاة أوصى إلى ابنه يزيد وصيّة تدلّ على عقله ولبّه، وخبرته بالأمور ومعرفته بالرّجال فلم يعمل يزيد بشيء منها وقد أثبتها ها هنا لحسنها وسدادها.
قالوا: لمّا مرض معاوية- رضي الله عنه مرضه الّذي مات فيه، دعا ابنه يزيد فقال له: «يا بنيّ! إنّي كفيتك الشدّ والترحال، ووطّأت لك الأمور، وذلّلت لك الأعداء، وأخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد.
فانظر أهل الحجاز فإنّهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعهّد من غاب، وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل كلّ يوم عاملا فافعل، فإنّ عزل عامل أيسر من أن يشهر مائة ألف سيف. وانظر أهل الشام، وليكونوا بطانتك، فإن رابك من عدوّك شيء فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنّهم إن أقاموا بها تغيّرت أخلاقهم وإنّي لست أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلا أربعة من قريش: الحسين بن عليّ وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر- رضي الله عنهم فأما ابن عمر: فرجل قد وقذته [1] العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك. وأمّا الحسين بن عليّ: فهو رجل خفيف، ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه. فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه فإن له رحما ماسّة، وحقّا عظيما، وقرابة من محمّد صلوات الله عليه وسلامه. وأمّا ابن أبي بكر، فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله. ليست له همّة إلا في النّساء واللهو. وأما الّذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب، فإن أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزّبير. فإن هو وثب عليك فظفرت به فقطّعه إربا إربا واحقن دماء [2] قومك ما استطعت.
[1] وقذته العبادة: أضنت جسده. غلبته وتركته عليلا.
[2]
حقن الدماء: وفّرها ولم يرقها.