الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقيصة الارتفاع، وقلت في نفسي: إن سالني عن السّبب شرحته له، فخرج جوابه إليّ يشكرني ويثني عليّ وشرّفني بشيء من ثيابه كما فعل في السّنة الخالية، فقلت في نفسي: وا ويلاه! هذا حالي معه في حالة الاجتهاد والتقصير، وقد شكرني على الحالتين المتناقضتين، وهذا يدلّ على أنّه لا يفكّر فيما يقوله ويفعله، فما يؤمنني أنّ بعض من هو قريب إليه من أعدائي يعرض عليه في أمري ما يكون سببا لهلاكي فلا يتأمّل القضيّة بل يتقدّم بما يوافق غرض العدوّ؟ قال الحاكي: فقلت له يعيذك الله ويقيك ممّا تحذر، وما برحت حتّى سلّيته وأزلت غمّه. وكان هذا أبو المعالي بن المطّلب من علماء الوزراء وأفاضلهم وأخيارهم.
انقضت أيام المستظهر باللَّه ووزرائه.
ثمّ ملك بعده ابنه المسترشد أبو منصور الفضل بن المستظهر باللَّه
بويع في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة.
كان المسترشد رجلا فاضلا، ولما بويع بالخلافة هرب أخوه الأمير أبو الحسن وأخفى نفسه، ومضى إلى الحلّة [1] مستجيرا بدبيس [2] بن صدقة صاحب الحلّة وكان دبيس بن صدقة أحد أجواد الدّنيا، وكان صاحب الدار والجار، والحمى والذّمار وكانت أيامه أعيادا، وكانت الحلّة في زمانه محطّ الرّحال، وملجأ بني الآمال، ومأوى الطّريد، ومعتصم الخائف الشّريد. فأكرمه دبيس إكراما زائدا عن الحدّ، وأفرد له دارا وأكرمه إكراما كثيرا، ومكث عنده مدّة على أحسن حال. فلما علم أخوه المسترشد باللَّه أنه عند دبيس قلق لذلك، وخاف من أمر يحدث من ناحيته فبعث نقيب النّقباء عليّ بن طراد الزّينيّ إلى الحلّة بخاتمه وأمانه، وأمره أن يأخذ
[1] الحلّة: مدينة على الفرات في العراق، جنوبي بغداد، في منطقة بابل.
[2]
دبيس بن صدقة: أمير الحلة، وبادية العراق. فارس مقاتل ضد الصليبيين. ورد ذكره في مقامات الحريري. اتّهم باغتيال الخليفة المسترشد واغتيل في بغداد بتدبير مسعود السلجوقي عام/ 529 هـ.
البيعة على دبيس ويطلب منه أن يسلم إليه الأمير أبا الحسن فقال دبيس: أمّا البيعة فالسّمع والطّاعة لأمر أمير المؤمنين، وبايع، وأما تسليم جاري فلا والله لا أسلّمه إليكم وهو جاري ونزيلي ولو قتلت دونه. إلا إن اختار. فأبى الأمير أبو الحسن التوجّه صحبة النقيب إلى أخيه فمضى النقيب وحده. ثمّ بعد ذلك ظفر به المسترشد فسجنه في بعض دوره في حالة جميلة. وجرت بين الخليفة المسترشد وبين السّلطان مسعود وحشة، وتفاقم الأمر فيها وأفضى الحال إلى الحرب، فتوجّه الخليفة المسترشد وصحبته العسكر وأرباب الدّولة وتجهّز مسعود للقائهم فلما التقوا والتحم القتال انكسر عسكر المسترشد، واستظهر السّلطان مسعود عليهم ونهب عسكره من العسكر الخليفيّ أموالا عظيمة، فيقال: إنّ صناديق المال كانت على مائة وسبعين بغلا، وهي أربعة آلاف ألف دينار، وكان الرّحل على خمسمائة جمل وكان معه عشرة آلاف عمامة، وعشرة آلاف جبّة، وعشرة آلاف قباء [1] ، كلّ ذلك من فاخر الثّياب، كان قد أعدّها للتشريفات إن ظفر، فيقال إن جملة ما نهب عشرة ألف ألف دينار، ونهى مسعود عن إراقة الدّماء، وقبض على أصحاب الخليفة وحملهم إلى القلعة وأمّا الخليفة فأفرد له خيمة ووكّل به جماعة، وسار مسعود والخليفة معه إلى مراغة [2] ، فوصل كتاب السّلطان سنجر [3] إلى مسعود يأمره بالإحسان إلى الخليفة وإعادته إلى بغداد مكرّما معزّزا، وأن يردّ عليه أمواله وأن يجعل له من الحشم والبرك والأسباب أعظم وأجمل ممّا ذهب منه ويعيده إلى بغداد على أتمّ حال فامتثل مسعود جميع ذلك، وصنع له من البرك والأسرّة والخيم والحمول أشياء جميلة ووقع العزم على العود إلى بغداد واتّفقت غفلة عن مسعود
[1] القباء: ثوب يرتدى فوق غيره من الثياب.
[2]
مراغة: كبرى مدن أذربيجان كانت عاصمة هولاكو قديما، شرقي بحيرة أرمية في إيران اليوم.
[3]
السلطان سنجر: هو أحمد سنجر بن ملك شاه آخر سلاجقة الفرس، خسر بلاد ما وراء النهر وأسرته قبائل الغزّ فكانت نهاية عهده بداية الانحطاط السلجوقي فيما وراء النهر. مات حوالي/ 552/ هـ.