الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وزير مشرق ومغرب نصير ملت ودين
…
كه باد رايت عاليش تا ابد منصور
صرير كلك تو در كشف مشكلات أمور
…
كه هم چونغمة داود در اداء زبور [1]
(بسيط) وأرسلها الأبهريّ صحبة بعض التّجار مع بعض القفول، وقال للتاجر أوصلها إلى الوزير، وإن قدرت ألا تعلمه من قائلها فافعل، فلما عرضت القصيدة على الوزير استحسنها وطلب التاجر ودفع إليه ألف دينار ذهبا، وقال، هذه تسلّمها إلى الأبهريّ ولا تعلمه ممّن هي!!.
وقبض الناصر عليه كارها لأمور اقتضت ذلك، وكان القبض عليه في سنة أربع وستّمائة، ونقل إلى دار في دار الخلافة، فأقام بها تحت الاستظهار على حالة الإكرام والمراعاة، إلى أن مات تحت الاستظهار في سنة سبع عشرة وستّمائة.
وزارة مؤيّد الدين محمّد بن عبد الكريم برز [2] القمّي للناصر
هو قمّي الأصل والمولد، بغداديّ المنشأ والوفاة، ينتسب إلى المقداد بن الأسود الكندي، كان رحمه الله بصيرا بأمور الملك، خبيرا بأدوات الرّئاسة، عالما بالقوانين عارفا باصطلاح الدّواوين، خبيرا بالحساب، ريّان من فنون الأدب، حافظا لمحاسن الأشعار، راويا لطرائف الأخبار، وكان جلدا على ممارسة الأمور الديوانية ملازما لها من الغدوة إلى العشيّة، وكان في ابتداء أمره قد تعلق بخدمة سلاطين العجم، وكان يلوذ ببعض وزراء العجم بأصفهان في حال صباه ولم يبلغ العشرين من عمره، وكان ذلك الوزير قد ضجر من الكتّاب الذين بين يديه، ونسبهم إلى أنّهم يخافون تقدماته، فأبعدهم عنه واستكتب القميّ ظنّا منه أنه لمجرد حداثة سنّه لا يقدم على مخالفة ما يشير به فمكث القمّي يكتب بين يديه مدّة، ففي
[1] وترجمة البيتين باختصار: وزير المشرق والمغرب، نصير الملة والدين. لتبق رايته العالية منصورة إلى الأبد صرير قلمك في كشف مشكلات الأمور مثل نغمة داود في ترتيل الزّبور.
[2]
في التسمية بعض الاختلاف راجع ألما ص/ 375/، ورحما ص/ 237/، وطبعة بيروت ص/ 326/، ولعلّ الصواب ما أثبتاه عن عزّ ها هنا.
بعض الأيّام أحضرت بين يدي الوزير جملة من الثياب النسيج، بعضها صحيح وبعضها مقطوع، فأحضر القمّي بين يديه ليثبت عددها ويحملها إلى الخزانة، وكان الوزير يورد عليه كذا وكذا ثوبا صحاحا فيكتب القمّي كذا وكذا ثوبا، وما يكتب لفظة «صحاحا» ، فقال له الوزير: لم لا تكتب كما أقول لك؟ فقال: يا مولانا لا حاجة إلى ذكر الصّحاح، فإنّي إذا وصلت إلى ذكر ثوب مقطوع ذكرت تحته أنّه مقطوع، فتخصيص المقطوع بالذكر يدلّ على أنّ ما لم يوصف بالقطع صحيح فقال الوزير: لا بل اكتب كما أقول لك فراجعه القمّي، فحرد [1] الوزير لذلك، وارتفع صوته والتفت إلى الحاضرين وقال: أنا عزلت الكتّاب الكبار الذين كانوا عندي لأجل مخالفتهم ولجاجهم فيما أقوله واستكتبت هذا الصبي ظنّا منّي أنه لحداثة سنّه لا يكون عنده من التجرّؤ والمخالفة ما عندهم، فإذا هو أشدّ مخالفة من أولئك، فخرج بعض خدّام السّلطان من بين يديه- وكان جالسا قريبا من مجلس الوزير- وسأل عن كثرة الصّياح وحرد الوزير، فعرّف الخادم صورة ما جرى بين الوزير والقمّي فدخل وحكى للسلطان ما قيل، فقال له: اخرج وقل للوزير الحقّ ما أعمده [2] الصبيّ الكاتب، وصار الخادم يستشيره ويسكن إليه ويأنس به، فاتّفق أنّ السلطان عيّن على هذا الخادم وعلى رجل آخر ليتوجّها في رسالة إلى ديوان الخليفة، فالتمس الخادم أن يكون القمّي صحبته، فتوجّهوا إلى بغداد وحضر الخادم ورفيقه عند الوزير ابن القصّاب فشافهاه بالرّسالة وسمعا الجواب، وكان جوابا غير مطابق للرسالة ولكنه كان نوعا من المغالطة، فقنع الخادم ورفيقه بذلك الجواب، وما تنبها على فساده، وخرجا فرجع القمي ووقف بين يدي الوزير وحادثة سرا وقال له: يا مولانا الجواب غير مطابق لما أنهاه المماليك، فقال له الوزير:
صدقت ولكن دعهم على غباوتهم ولا تفطنهم إلى ذلك، فقال السمع والطاعة، ثم إن ابن القصاب كتب إلى الخليفة يقول له: إنه قد وصل إلى صحبة خادم السلطان فلان
[1] حرد: غضب.
[2]
أعمده: «كذا في ألما ص/ 377/، وهي اعتهده في رحما ص/ 238/، وفي طبعة بيروت ص/ 327/. ولعل الصّواب أعدّه أو أعتمده ومعناها أقرّه وارتضاه» . المحقق.
شاب قمي قد جرى من تنبهه كيت وكيت، ومثل هذا يجب أن يصطنع ويحسن إليه ويستخدم، فكتب الخليفة يأمره بألا يمكنه من التوجّه معهم، فعمل له حجة وقطع عنهم، فتوجهوا وأقام القمي ببغداد، فعين عليه في كتابة الإنشاء، فمكث على ذلك مدة، ثم تولى الوزارة وتمكن في الدولة تمكنا لم يتمكن مثله أحد من أمثاله، وكان أوحد زمانه في كل شيء حسن، كثير البر والخير والصدقات.
حدث عنه مملوكه بدر الدين أياز قال: طلب ليلة من الليالي حلاوة النبات فعمل في الحال منها صحون كثيرة، وأحضرت بين يديه في ذلك الليل فقال لي:
يا أياز تقدر تدّخر هذه الحلاوة لي موفّرة إلى يوم القيامة؟ فقلت: يا مولانا وكيف يكون ذلك؟ وهل يمكن هذا؟ قال: نعم، تمضي في هذه الساعة إلى مشهد موسى والجواد- عليهما السلام وتضع هذه الأصحن قدام أيتام العلويين، فإنّها تدّخر لي موفّرة إلى يوم القيامة، قال أياز: فقلت: السمع والطاعة، ومضيت- وكان نصف الليل- إلى المشهد وفتحت الأبواب وأنبهت الصبيان الأيتام ووضعت الأصحن بين يديهم ورجعت.
وما زال القميّ على سداد من أمره، تولى الوزارة للناصر، ثم للظاهر ثم للمستنصر حتى قبض عليه المستنصر وحبسه في باطن دار الخلافة مدة فمرض وأخرج مريضا فمات- رحمه الله في سنة تسع وعشرين وستمائة.
انقضت أيام الناصر لدين الله ووزرائه.