الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سمعهما استحسنهما وهما:
وزيرنا زاهد والناس قد زهدوا
…
فيه فكلّ عن اللذّات منكمش
أيّامه مثّل شهر الصّوم خالية
…
من المعاصي وفيها الجوع والعطش
(بسيط) وما زالت السّعادة تخدمه إلى آخر عمره، فمن جملة سعادته- وهو من الاتّفاقات العجيبة- ما حدّث عنه، وهو أنه قبل الوزارة عمل في بعض الأعياد سنبوسجا كثيرا، وأحبّ أنّ يداعب بعض أصحابه، فأمر أن يحشى سبعون سنبوسجة بحبّ قطن ونخالة وتجعل مفردة، وعمل سنبوسجا كثيرا كجاري العادة، وركب إلى دار الخليفة فطلب منه عمل شيء من السنبوسج، فذكر أنّ عنده شيئا مفروغا منه، وأمر خادما له بإحضار ما عنده من السّنبوسج، فمضى الخادم عن غير معرفة بذلك المحشوّ بحبّ القطن ومزج الجميع ووضعه في الأطباق ليحمله إلى دار الخليفة، فجاء الجواري والخدم وقالوا: أعطونا حصّتنا من هذا، فأخذوا منه مائة سنبوسجة، وحمل الخادم الأطباق بما فيها إلى دار الخليفة، فلمّا حمل السّنبوسج وصار بدار الخليفة ورجع ابن الناقد إلى داره سأل عن السنبوسج المحشوّ بحبّ القطن، فقالوا له: ما عرفنا بشيء من ذلك، وفلان الخادم جاء ومزج الجميع وأخذه ومضى، فلم يشكّ أنّه هالك وكادت تسقط قوّته خوفا وخجلا، فقال: أما تخلّف منه شيء قطّ؟ قالوا: قد اقتطع الجواري والخدم منه حدود مائة سنبوسجة، فقال: أحضروها فأحضرت وفتحت بين يديه، فوجد السبعين سنبوسجة المحشوّة بحبّ القطن قد حصلت بأيدي الجواري والخدم في جملة ما أخذوه لأنفسهم، لم تشذّ منهم واحدة إلى دار الخليفة، ومات نصير الدين في سنة اثنتين وأربعين وستّمائة في خلافة المستعصم.
انقضت أيام المستنصر ووزرائه.
ثمّ ملك بعده ولده أبو أحمد عبد الله المستعصم باللَّه
بويع له بالخلافة في سنة أربعين وستّمائة، وهو آخر الخلفاء.
كان المستعصم رجلا خيّرا متديّنا ليّن الجانب سهل العريكة عفيف اللسان حمل كتاب الله تعالى، وكتب خطّا مليحا وكان سهل الأخلاق، وكان خفيف الوطأة إلّا أنّه كان مستضعف الرأي ضعيف البطش، قليل الخبرة بأمور المملكة مطموعا
فيه، غير مهيب في النفوس، ولا مطّلع على حقائق الأمور، وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرّج على المساخرة، وفي بعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوسا ليس فيه كبير فائدة، وكان أصحابه مستولين عليه، وكلّهم جهال من أراذل العوامّ، إلا وزيره مؤيّد الدين محمّد بن العلقميّ فإنّه كان من أعيان الناس وعقلاء الرّجال، وكان مكفوف اليد مردود القول، يترقّب العزل والقبض صباح مساء.
وكانت عادة الخلفاء أكثرهم أن يحبسوا أولادهم وأقاربهم- وبذلك جرت سنّتهم إلى آخر أيّام المستنصر- فلمّا ولي المستعصم أطلق أولاده الثلاثة ولم يحبسهم وهم: الأمير الكبير أبو العبّاس أحمد، والعامّة تسمّيه أبا بكر، وليس بصحيح، وإنما سمّوه بذلك، لأنّه لمّا نهب الكرخ نسب الأمر في ذلك إليه وقيل إنّه هو الّذي أشار بذلك والأمير الأوسط وهو أبو الفضائل عبد الرّحمن كان شهما، خرج إلى بين يدي السّلطان هولاكو، ووقع كلامه بموضع الاستحسان في الحضرة السّلطانية، والأمير الأصغر أبو المناقب.
حدّثني صفيّ الدين عبد المؤمن بن فاخر الأرمويّ- وكان قد صار في آخر أيّام المستعصم مقرّبا عنده ومن خواصّه، وكان قد استجدّ في آخر أيّامه خزانة كتب ونقل إليها من نفائس الكتب وسلّم مفاتيحها إلى عبد المؤمن، فصار عبد المؤمن يجلس بباب الخزانة ينسخ له ما يريد، وإذا خطر للخليفة الجلوس في خزانة الكتب جاء إليها وعدل عن الخزانة الأولى التي كانت مسلّمة إلى الشيخ صدر الدّين عليّ ابن النيّار، قال (أعني عبد المؤمن) : كنت مرّة جالسا في حجرة صغيرة وأنا أنسخ وهناك مرتبة برسم الخليفة إذا جاء إلى هناك جلس عليها، وقد بسطت عليها ملحفة لتردّ عنها الغبار، فجاء خويدم صغير ونام قريبا من المرتبة المذكورة واستغرق في النّوم، فتقلّب حتى تلفّف في تلك الملحفة المبسوطة على المرتبة ثم تقلّب حتّى صارت رجلاه على المسند، قال: وأنا مشغول بالنّسخ فأحسست بوطء في الدّهليز، فنظرت فإذا هو الخليفة وهو يستدعيني بالإشارة ويخفّف وطأه، فقمت إليه منزعجا وقبّلت الأرض، فقال لي: هذا الخويدم الّذي قد نام حتى تلفّف في هذه الملحفة وصارت رجلاه على المسند متى هجمت عليه حتّى يستيقظ ويعلم أني شاهدته على هذه الحال فتنفطر مرارته من الخوف، فأيقظه أنت برفق فإنّي سأخرج
إلى البستان، ثمّ أعود، قال: وخرج الخليفة فدخلت إلى الخويدم وأيقظته فانتبه، ثم أصلحنا المرتبة، ثمّ دخل الخليفة.
وحدّثني بعض أهل بغداد قال: حدّثت أنّ الشيخ صدر الدين بن التيار شيخ الخليفة قال: دخلت مرّة إلى خزانة الكتب على عادتي وفي كمّي منديل فيه رقاع كثيرة لجماعة من أرباب الحوائج، فطرحت المنديل وفيه الرّقاع في موضعي، ثم قمت لبعض شأني، فلمّا عدت إلى الخزانة بعد ساعة حللت الرّقاع من المنديل حتى أتأملّها وأقدّم منها المهمّ، فرأيتها جميعها وعليها توقيع الخليفة بالإجابة إلى جميع ما فيها، فعلمت أنّ الخليفة قد جاء إلى الخزانة عند قيامي فرأى المنديل وفيه الرّقاع ففتحها ووقّع على جميعها والمستعصم هو آخر خلفاء الدولة العباسية ببغداد. ولم يجر في أيام المستعصم شيء يؤثر سوى نهب الكرخ، وبئس الأثر ذلك!.
وفي آخر أيّامه قويت، الأراجيف [1] بوصول عسكر المغول صحبة السّلطان هولاكو فلم يحرّك ذلك منه عزما، ولا نبه منه همّة، ولا أحدث عنده همّا، وكان كلّما سمع عن السّلطان من الاحتياط والاستعداد شيء ظهر من الخليفة نقيضه من التّفرط والإهمال، ولم يكن يتصور حقيقة الحال في ذلك، ولا يعرف هذه الدّولة- يسّر الله إحسانها وأعلى شأنها- حقّ المعرفة. وكان وزيره مؤيّد الدين بن العلقميّ يعرف حقيقة الحال في ذلك، ويكاتبه بالتّحذير والتّنبيه، ويشير عليه بالتّيقظ والاحتياط والاستعداد وهو لا يزداد إلا غفولا. وكان خواصّه يوهمونه أنّه ليس في هذا كبير خطر ولا هناك محذور، وأنّ الوزير إنما يعظّم هذا لينفق سوقه ولتبرز إليه الأموال ليجنّد بها العساكر فيقتطع منها لنفسه.
وما زالت غفلة الخليفة تنمي [2] ويقظة الجانب الآخر تتضاعف، حتّى وصل العسكر السلطاني إلى همذان وأقام بها مديدة، ثمّ تواترت الرّسل السّلطانيّة إلى الدّيوان المستعصميّ، فوقع التعيين من ديوان الخليفة على ولد أستاذ الدّار، وهو شرف الدين عبد الله بن الجوزيّ، فبعث رسولا إلى خدمة الدّركاه [3] السلطانيّة بهمذان، فلمّا وصل وسمع جوابه علم أنه جواب مغالطة ومدافعة، فحينئذ
[1] الأراجيف: الشائعات من الأخبار.
[2]
نمى ينمي: مثلهما: نما ينمو بمعنى زاد يزيد أو كثر يكثر.
[3]
الدّركاه: القصر أو السّدّة. والكلمة فارسيّة.
وقع الشّروع في قصد بغداد وبثّ العساكر إليها، فتوجّه عسكر كثيف من المغول، والمقدم عليهم باجو، إلى تكريت ليعبروا من هناك إلى الجانب الغربيّ ويقصدوا بغداد من غربها، ويقصدها العسكر السلطانيّ من شرقيّها، فلمّا عبر عسكر باجو من تكريت، وانحدر إلى أعمال بغداد أجفل النّاس من دجيل والإسحاقي ونهر ملك ونهر عيسى، ودخلوا إلى المدينة بنسائهم وأولادهم، حتّى كان الرجل أو المرأة يقذف بنفسه في الماء، وكان الملّاح إذا عبر أحد في سفينة من جانب إلى جانب يأخذ أجرته سوارا من ذهب أو طرازا من زركش أو عدّة من الدنانير. فلمّا وصل العسكر السلطانيّ إلى دجيل- وهو يزيد على ثلاثين ألف فارس- خرج إليه عسكر الخليفة صحبة مقدّم الجيوش مجاهد الدين أيبك الدّويدار وكان عسكره في غاية القلّة، فالتقوا بالجانب الغربيّ من بغداد قريبا من البلد، فكانت الغلبة في أوّل الأمر لعسكر الخليفة، ثم كانت الكرّة للعسكر السلطانيّ فأبادوهم قتلا وأسرا، وأعانهم على ذلك نهر فتحوه في طول الليل، فكثرت الوحول في طريق المنهزمين فلم ينج منهم إلا من رمى نفسه في الماء أو من دخل البريّة ومضى على وجه الشأم ونجا الدّويدار في جمعيّة من عسكره ووصل إلى بغداد، وساق باجو حتّى دخل البلد من جانبه الغربيّ، ووقف بعساكره محاذي التّاج، وجاست عساكره خلال الدّيار وأقام محاذي التاج أيّاما.
وأمّا حال معسكر السلطاني فإنّه في يوم الخميس رابع محرم من سنة ستّ وخمسين وستّمائة ثارت غبرة عظيمة شرقيّ بغداد على درب يعقوبا بحيث عمّت البلد فانزعج الناس من ذلك وصعدوا إلى أعالي السّطوح والمناير [1] يتشوّفون، فانكشفت الغبرة عن عساكر السلطان وخيوله ولفيفه وكراعه وقد طبق وجه الأرض وأحاط ببغداد من جميع جهاتها، ثم أسرعوا في استعمال أسباب الحصار، وشرع العسكر الخليفي في المدافعة والمقاومة إلى اليوم التاسع عشر من محرم، فلم يشعر الناس إلا ورايات المغول ظاهرة على سور بغداد من برج يسمى برج العجمي من ناحية باب من أبواب بغداد يقال له باب كلواذى.
وكان هذا البرج أقصر أبراج السور، وتقحم العسكر السلطاني هجوما ودخولا، فجرى من القتل الذريع والنهب العظيم والتمثيل البليغ ما يعظم سماعه
[1] المناير جمع منارة وهي المئذنة.