الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتّى فرّق أربعة وعشرين ألف ألف ألف درهم (والألف مكررة ثلاث مرّات) ورجله في الرّكاب، ثمّ حوّل الباقي على عارض الجيش برسم مصالح الجند، واعلم أنّ المأمون كان من عظماء الخلفاء، ومن عقلاء الرّجال، وله اختراعات كثيرة في مملكته.
منها: أنّه هو أوّل من فحص منهم عن علوم الحكمة، وحصّل كتبها وأمر بنقلها إلى العربيّة وشهرها، وحلّ إقليدس [1] ، ونظر في علوم الأوائل، وتكلّم في الطّبّ وقرّب أهل الحكمة.
ومن اختراعاته: مقاسمة أهل السّواد [2] بالخمسين، وكانت المقاسمة المعهودة النّصف.
ومن اختراعاته: إلزام الناس أن يقولوا بخلق القرآن، وفي أيّامه نشأت هذه المقالة ونوظر [3] فيها أحمد بن حنبل [4] وغيره، ولما مات المأمون أوصى أخاه المعتصم بها، فلما ولي المعتصم تكلّم فيها وضرب أحمد بن حنبل، وسيرد خبر ذلك في موضعه.
ومن اختراعاته: نقل الدولة من بني العبّاس إلى بني عليّ- عليه السلام وتغيير الناس السّواد بلباس الخضرة، وقالوا: هو لباس أهل الجنّة.
شرح الحال في ذلك
كان المأمون قد فكّر في حال الخلافة بعده، وأراد أن يجعلها في رجل يصلح لها لتبرأ ذمّته- كذا زعم- فذكر أنّه اعتبر أحوال أعيان البيتين: البيت
[1] إقليدس: عالم رياضيات وهندسة، يوناني شهير، عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، وعلّم في الإسكندرية. ترجمت كتبه في عهد المأمون.
[2]
السّواد: الريف العراقي ما بين النّهرين.
[3]
نوظر: جودل ونوقش من المجادلة والمناقشة.
[4]
أحمد بن حنبل: أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ. ولد ببغداد عالم جليل ومحدّث له المسند في الحديث النبوي. دعي إلى القول بخلق القرآن فلم يجب فأضطهد وحبس حتى زمن المتوكّل. كانت وفاته عام/ 241/ هـ.
العبّاسيّ، والبيت العلويّ، فلم ير فيهما أصلح ولا أفضل، ولا أورع ولا أدين، من عليّ بن موسى الرّضا- عليهما السلام فعهد إليه، وكتب بذلك كتابا بخطّه، وألزم الرّضا- عليه السلام بذلك، فامتنع ثمّ أجاب، ووضع خطّه في ظاهر كتاب المأمون بما معناه: إني قد أجبت امتثالا للأمر، وإن كان الجفر والجامعة يدلان على ضدّ ذلك، وشهد عليهما بذلك الشّهود.
وكان الفضل بن سهل وزير المأمون هو القائم بهذا الأمر والمحسّن له، فبايع الناس لعلي بن موسى من بعد المأمون، وسمّي الرّضا من آل محمّد (صلوات الله عليه) .
وأمر المأمون الناس بخلع لباس السّواد ولبس الخضرة، وكان هذا في خراسان فلمّا سمع العبّاسيّون ببغداد فعل المأمون، من نقل الخلافة عن البيت العبّاسي إلى البيت العلويّ، وتغيير لباس آبائه وأجداده بلباس الخضرة- أنكروا ذلك وخلعوا المأمون من الخلافة غضبا من فعله، وبايعوا عمّه إبراهيم بن المهديّ وكان فاضلا شاعرا، فصيحا أديبا، مغنيا حاذقا، وإليه أشار أبو فراس بن حمدان في ميميّته بقوله:
منكم عليّة أم منهم وكان لكم
…
شيخ المغنّين إبراهيم أم لهم؟ [1]
(بسيط) وكانت تلك الأيام أيام فتن وحروب، فلمّا بلغ المأمون ذلك قام وقعد، فقتل الفضل بن سهل، ومات بعده عليّ بن موسى من أكل عنب، فقيل: إنّ المأمون لما
[1] البيت من قصيدة يرثي بها أبو فراس لعذابات بني عليّ بن أبي طالب واضطهادهم على أيدي العباسيين، ويعيّر العبّاسيين بالتفاتهم إلى العبث والغناء واللهو، ويذكر اسم علية بنت المهدي وإبراهيم بن المهديّ على سبيل التعيير. وقد ورد البيت في ديوان أبي فراس بقوله:
منكم عليّة أم منهم؟ وكان لهم
…
شيخ المغنّين إبراهيم أم لكم
أمّا عليّة فهي أخت إبراهيم بن المهديّ وكانت أديبة شاعرة تحسن صناعة الغناء ولقبها العبّاسة، وهي أخت الرشيد. توفيت عام/ 210/ هـ.
رأى إنكار الناس ببغداد لما فعله، من نقل الخلافة إلى بني علي، وأنهم نسبوا ذلك إلى الفضل بن سهل، ورأى الفتنة قائمة- دسّ جماعة على الفضل بن سهل فقتلوه في الحمام، ثم أخذهم وقدّمهم ليضرب أعناقهم، فقالوا له: أنت أمرتنا بذلك ثمّ تقتلنا! فقال لهم: أنا أقتلكم بإقراركم، وأما ما ادّعيتموه عليّ من أنّي أمرتكم بذلك فدعوى ليس لها بيّنة. ثم ضرب أعناقهم وحمل رءوسهم إلى الحسن بن سهل، وكتب يعزّيه ويوليه مكانه وانضمّ إلى ذلك أمور أخرى سنذكرها عند ذكر وزارة الفضل. ثمّ دسّ إلى عليّ بن موسى الرّضا- عليه السلام سمّا في عنب- وكان يحبّ العنب- فأكل منه واستكثر فمات من ساعته، ثم كتب إلى بني العبّاس ببغداد يقول لهم: إنّ الّذي أنكرتموه من أمر عليّ بن موسى قد زال، وإنّ الرجل مات، فأجابوه أغلظ جواب، وكان الفضل بن سهل قد استولى على المأمون، ومتّ أمتانا [1] كثيرة بقيامه في أمره، واجتهاده في أخذ الخلافة له، فكان قد قطع الأخبار عنه ومتى علم أنّ أحدا قد دخل عليه أو أعلمه بخبر سعى في مكروهة، فامتنع الناس من كلام المأمون فانطوت الأخبار عنه، فلما ثارت الفتنة ببغداد وخلع المأمون، وبويع إبراهيم بن المهديّ وأنكر العباسيّون على المأمون فعله كتم الفضل بن سهل عن المأمون مدّة، فدخل عليه عليّ بن موسى الرّضا- عليهما السلام وقال له:
يا أمير المؤمنين: إنّ الناس ببغداد قد أنكروا عليك مبايعتي بولاية العهد، وتغيير لباس السّواد، وقد خلعوك، وبايعوا عمّك إبراهيم بن المهديّ، وأحضر إليه جماعة من القوّاد ليخبروه بذلك، فلما سألهم المأمون أمسكوا وقالوا: نخاف من الفضل، فإن كنت تؤمننا من شرّه أخبرناك، فأمّنهم وكتب لهم خطّه، فأخبروه بصورة الحال وعرّفوه خيانة الفضل وتعمية الأمور عليه، وستره الأخبار عنه، وقالوا له: الرأي أن تسير بنفسك إلى بغداد وتستدرك أمرك، وإلا خرجت الخلافة من يدك، فكان بعد هذا بقليل قتل الفضل، وموت الرّضا على ما تقدّم شرحه.
[1] متّ أمتانا: قطع برأيه وتصرّف.
ثمّ جدّ المأمون في المسير إلى بغداد، فوصلها وقد هرب إبراهيم بن المهديّ والفضل بن الربيع، فلمّا دخل البلد تلقّاه العبّاسيون وكلّموه في ترك لباس الخضرة والعود إلى السّواد واجتمعت به زينب بنت سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس- وكانت في طبقة المنصور، وكان بنو العبّاس يعظّمونها، وإليها ينسب الزينبيّون- فقالت له: يا أمير المؤمنين: ما الّذي دعاك إلى نقل الخلافة من بيتك إلى بيت عليّ قال: يا عمّة: إني رأيت عليّا حين ولي الخلافة أحسن إلى بني العبّاس، فولّى عبد الله البصرة، وعبيد الله اليمن، وقثم سمرقند [1] ، وما رأيت أحدا من أهل بيتي حين افضى الأمر إليهم، كافئوه على فعله في ولده، فأحببت أن أكافئه على إحسانه فقالت له: يا أمير المؤمنين: إنّك على برّ بني عليّ والأمر فيك، أقدر منك على برّهم والأمر فيهم، ثمّ سألته تغيير لباس الخضرة فأجابها إلى ذلك، وأمر الناس بتغييره والعود إلى لباس السّواد، ثمّ إنّ المأمون عفا عن عمّه إبراهيم بن المهدي، ولم يؤاخذه، وأحسن إليه وصار من ندمائه، وكذلك فعل مع الفضل بن الرّبيع، وكان حليما، كان يقول: لو عرف الناس حبّي للعفو لتقرّبوا إليّ بالذّنوب.
في أيامه خرج محمّد بن جعفر الصادق عليهما السلام بمكّة، وبويع بالخلافة وسمّوه أمير المؤمنين، وكان بعض أهله قد حسّن له ذلك حين رأى كثرة الاختلاف ببغداد، وما بها من الفتن، وخروج الخوارج، وكان محمّد بن جعفر شيخا من شيوخ آل أبي طالب يقرأ عليه العلم، وكان روى عن أبيه عليه السلام علما جمّا، فمكث بمكّة مدّة، وكان الغالب على أمره ابنه وبعض بني عمه فلم تحمد سيرتهما، وأرسل المأمون إليهم عسكرا فكانت الغلبة له، وظفر به المأمون وعفا عنه.
وفي أيّامه خرج أبو السّرايا وقويت شوكته، ودعا إلى بعض أهل البيت، فقاتله الحسن بن سهل فكانت الغلبة للجيش المأمونيّ وقتل أبو السّرايا، ثمّ صفا الملك بعد ذلك للمأمون وسكنت الفتّن، وقام المأمون بأعباء الخلافة وتدبير المملكة
[1] قثم: هو ابن العبّاس بن عبد المطّلب ولّاه علي بن أبي طالب على المدينة واستمر فيها إلى أن قتل عليّ فخرج إلى سمرقند واستشهد بها عام/ 57/ هـ.