الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} إلى غير ذلك من الآيات.
والمعنى: قد بلغت ولست مسئولًا عن شقاوتهم إذا امتنعوا من الإيمان، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، فلا تحزن عليهم إذا كانوا أشقياء.
•
قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}
أمر الله جل وعلا نبيه في هذه الآية الكريمة بخفض جناحيه للمؤمنين. وخفض الجناح كناية عن لين الجانب والتواضع، ومنه قول الشاعر:
وأنت الشهير بخفض الجناح
…
فلا تك في رفعه أجدلا
وبين هذا المعنى في مواضع أخر؛ كقوله في الشعراء: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} ، وكقوله:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من دليل خطاب الآية الكريمة -أعني مفهوم مخالفتها- أن غير المؤمنين لا يخفض لهم الجناح، بل يعاملون بالشدة والغلظة.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر؛ كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} ، وقوله:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} كما قدمناه فى المائدة.
•
قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)}
في المراد
بالمقتسمين أقوال للعلماء معروفة، وكل واحد منها يشهد له قرآن؛ إلا أن في الآية الكريمة قرينة تضعف بعض تلك الأقوال:
الأول: أن المراد بالمقتسمين: الذين يحلفون على تكذيب الرسل ومخالفتهم، وعلى هذا القول فالاقتسام افتعال من القسم بمعنى اليمين، وهو بمعنى التقاسم.
ومن الآيات التي ترشد لهذا الوجه قوله تعالى عن قوم صالح: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} الآية. أي: نقتلهم ليلًا، وقوله:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} وقوله: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)} وقوله: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} إلى غير ذلك من الآيات. فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه؛ فسموا مقتسمين.
القول الثاني: أن المراد بالمقتسمين: اليهود والنصارى. وإنما وصفوا بأنهم مقتسمون؛ لأنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها.
ويدل لهذا القول قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} الآية، وقوله:{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} الآية.
القول الثالث: أن المراد بالمقتسمين: جماعة من كفار مكة اقتسموا القرآن بأقوالهم الكاذبة، فقال بعضهم: هو شعر. وقال بعضهم: هو سحر. وقال بعضهم: كهانة. وقال بعضهم: أساطير الأولين. وقال بعضهم: اختلقه محمد، - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا القول تدل له الآيات الدالة على أنهم قالوا في القرآن تلك الأقوال المفتراة الكاذبة، كقوله تعالى:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)} وقوله: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)} وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)} وقوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} إلى غير ذلك من الآيات.
والقرينة في الآية الكريمة تؤيد هذا القول الثالث، ولا تنافي الثاني بخلاف الأول؛ لأن قوله:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)} أظهر في القول الثالث، لجعلهم له أعضاء متفرقة بحسب اختلاف أقوالهم الكاذبة، كقولهم: شعر، سحر، كهانة الخ. وعلى أنهم أهل الكتاب -فالمراد بالقرآن كتبهم التي جزءوها فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها، أو القرآن، لأنهم آمنوا بما وافق هواهم منه وكفروا بغيره.
وقوله: {عِضِينَ (91)} جمع عضة، وهي العضو من الشيء، أي جعلوه أعضاء متفرقة. واللام المحذوفة أصلها واو. قال بعض العلماء: اللام المحذوفة أصلها هاء، وعليه فأصل العضة عضهة. والعضه السحر؛ فعلى هذا القول فالمعنى جعلوا القرآن سحرًا؛ كقوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)} وقوله: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا} إلى غير ذلك من الآيات.
والعرب تسمي الساحر عاضها، والساحرة عاضهة، والسحر عضها. ويقال: إن ذلك لغة قريش، ومنه قول الشاعر:
أعوذ بربي من النافثا
…
ت في عقد العاضة المعيضه
تنبيه
فإن قيل: بم تتعلق الكاف في قوله: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)} ؟
فالجواب: ما ذكره الزمخشري في كشافه قال: فإن قلت: بم تعلق قوله {كَمَا أَنْزَلْنَا} .
قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ} أي: أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين، حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم: بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه. وقيل: كانوا يستهزئون به فيقول بعضهم: "سورة البقرة" لي، ويقول الآخر:"سورة آل عمران" لي (إلى أن قال).
الوجه الثاني: أن يتعلق بقوله: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)} أي: وأنذر قريشًا مثل ما أنزلناه من العذاب على المقتسمين (يعني اليهود)، وهو ما جرى على قريظة والنضير. جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز؛ لأنه إخبار بما سيكون، وقد كان. انتهى محل الغرض من كلام صاحب الكشاف.
ونقل كلامه بتمامه أبو حيان في "البحر المحيط" ثم قال أبو حيان: أما الوجه الأول وهو تعلق "كما" بـ "آتيناك" فذكره أبو البقاء