الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صيغة تفضيل تدل على المشاركة، والواجب أحسن من المندوب، والمندوب أحسن من المباح، فيجازون بالأحسن الذي هو الواجب والمندوب، دون مشاركهما في الحسن وهو المباح، وعليه درج في مراقي السعود في قوله:
ما ربنا لم ينه عنه حسن
…
وغيره القبيح والمستهجن
إلا أن الحسن ينقسم إلى حسن وأحسن؛ ومن ذلك قوله تعالى لموسى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} الآية. فالجزاء المنصوص عليه في قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} حسن، والصبر المذكور في قوله:{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} أحسن؛ وهكذا.
وقرأ هذا الحرف ابن كثير وعاصم وابن ذكوان بخلف عنه: {وَلَنَجْزِيَنَّ} بنون العظمة. وقرأه الباقون بالياء، وهو الطريق الثاني لابن ذكوان.
•
.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن كل عامل سواء كان ذكرًا أو أنثي عمل عملًا صالحًا فإنه جل وعلا يقسم ليحيينه حياة طيبة، وليجزينه أجره بأحسن ما كان يعمل.
اعلم أولًا: أن القرآن العظيم دل على أن العمل الصالح هو مما استكمل ثلاثة أمور:
الأول: موافقته لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
الثاني: أن يكون خالصًا لله تعالى؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} .
الثالث: أن يكون مبنيًا على أساس العقيدة الصحيحة؛ لأن الله يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فقيد ذلك بالإيمان، ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح.
وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات كثيرة، كقوله في عمل غير المؤمن:{وَقَدِمْنَا إِلَي مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} الآية، وقوله:{أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} إلى غير ذلك من الآيات.
واختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة:
فقال قوم: لا تطيب الحياة إلا في الجنة، فهذه الحياة الطيبة في الجنة؛ لأن الحياة الدنيا لا تخلو من المصائب والأكدار، والأمراض والآلام والأحزان؛ ونحو ذلك؛ وقد قال تعالى:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} والمراد بالحيوان: الحياة.
وقال بعض العلماء: الحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة في الدنيا، وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه، ويرزقه العافية والرزق الحلال، كما قال تعالى:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} .
قال مقيده -عفا الله عنه-: وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية: حياته في الدنيا حياة طيبة، وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة: حياته في الجنة في قوله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} صار قوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} تكرارًا معه؛ لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم، بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا، فإنه يصير المعنى: فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة، ولنجزينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل، وهو واضح.
وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن تؤيده السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة: أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه فسرها بالقناعة، وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه -إلى أن قال-: وقال الضحاك: هي الرزق الحلال، والعبادة في الدنيا. وقال الضحاك أيضًا: هي العمل بالطاعة والانشراح بها.
والصحيح: أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله، كما جاء في
الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني شرحبيل بن شريك، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه" ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري به. وروي الترمذي والنسائي من حديث أبي هانئ: عن أبي على الجنبي، عن فضالة بن عبيد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قد أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع به" وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا همام، عن يحيى، عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطي بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضي إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطي بها خيرًا" انفرد بإخراجه مسلم اهـ من ابن كثير.
وهذه الأحاديث ظاهرة في ترجيح القول بأن الحياة الطيبة في الدنيا؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح" يدل على ذلك لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"يعطي بها في الدنيا" يدل على ذلك أيضًا. وابن كثير إنما ساق الأحاديث المذكورة لينبه على أنها ترجح القول المذكور. والعلم عند الله تعالى.
وقد تقرر في الأصول: أنه إذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس رجح حمله على التأسيس؛ وإليه أشار في مراقي السعود جامعًا له مع نظائر يجب فيها تقديم الراجح من الاحتمالين بقوله:
كذاك ما قابل ذا اعتلال
…
من التأصل والاستقلال
ومن تأسس عموم وبقا
…
الأفراد والإطلاق مما ينتقي
كذاك ترتيب لإيجاب العمل
…
بما له الرجحان مما يحتمل
ومعنى كلام صاحب المراقي: أنه يقدم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح، كالتأصل، فإنه يقدم على الزيادة؛ نحو:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يحتمل كون الكاف زائدة، ويحتمل أنها غير زائدة. والمراد بالمثل الذات، كقول العرب: مثلك لا يفعل هذا، يعنون أنت لا ينبغي لك أن تفعل هذا. فالمعنى: ليس كالله شيء. ونظيره من إطلاق المثل وإرادة الذات: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} أي: على نفس القرآن، لا شيء آخر مماثل له، وقوله:{كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} أي: كمن هو في الظلمات، وكالاستقلال، فإنه يقدم على الإضمار، كقوله تعالى:{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الآية. فكثير من العلماء يضمرون قيودًا غير مذكورة فيقولون: أن يقتلوا إذا قتلوا، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم إذا أخذوا المال ولم يقتلوا. . الخ.
فالمالكية يرجحون أن الإمام مخير بين المذكورات مطلقًا؛ لأن استقلال اللفظ أرجح من إضمار قيود غير مذكورة؛ لأن الأصل عدمها حتى تثبت بدليل، كما أشرنا إليه سابقًا في (المائدة) وكذلك التأسيس يقدم على التأكيد، وهو محل الشاهد، كقوله:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في (سورة الرحمن) وقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في (المرسلات) قيل: تكرار اللفظ فيهما توكيد، وكونه تأسيسًا أرجح لما ذكرنا، فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم قبل