الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما يدل من القرآن على أن المراد بإلقاء السلم: الخضوع والاستسلام قوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} على قراءة نافع وابن عامر وحمزة بلا ألف بعد اللام، بمعنى الانقياد والإذعان، وقوله:{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} وقوله: {فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ} الآية.
والقول بأن السلم في الآيتين الأخيرتين: الصلح والمهادنة لا ينافي ما ذكرنا؛ لأن المصالح منقاد مذعن لما وافق من ترك السوء. وقوله: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)} فكله بمعنى الاستسلام والخضوع والانقياد. والانقياد عند معاينة الموت لا ينفع، كما قدمنا، وكما دلت عليه آيات كثيرة، كقوله:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} الآية، وقوله:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} الآية، وقوله:{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} إلى غير ذلك من الآيات.
•
وقوله تعالى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}
يعني أن الذين تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمي أنفسهم إذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم، وقالوا:{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} فقوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} معمول قول محذوف بلا خلاف.
والمعنى: أنهم ينكرون ما كانوا يعملون من السوء، وهو الكفر وتكذيب الرسل والمعاصي. وقد بين الله كذبهم بقوله:{بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)} .
وبين في مواضع أخر: أنهم ينكرون ما كانوا عليه من الكفرِ والمعاصي كما ذكر هنا، وبين كذبهم في ذلك أيضًا، كقوله:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} وقوله: {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)} وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)} وقوله: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)} أي: حرامًا محرمًا أن تمسونا بسوء؛ لأنا لم نفعل ما نستحق به ذلك، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله هنا: {بَلَى} تكذيب لهم في قولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} .
تنبيه
لفظة "بلى" لا تأتي في اللغة العربية إلا لأحد معنيين لا ثالث لهما:
الأول: أن تأتي لإبطال نفي سابق في الكلام، فهي نقيضة "لا"؛ لأن "لا" لنفي الإثبات، و"بلى" لنفي النفي؛ كقوله هنا:{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} فهذا النفي نفته لفظة "بلى" أي: كنتم تعملون السوء من الكفر والمعاصي؛ وكقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} وكقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} وقوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} فإنه نفى هذا النفي بقوله جل وعلا: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الآية، ومثل هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب.