الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول إن هذا القرآن الذي زعموا أنه افتراء بسبب تبديل الله آية مكان آية: أنه نزل عليه روح القدس من ربه جل وعلا؛ فليس مفتريًا له، وروح القدس: جبريل، ومعناه الروح المقدس؛ أي: الطاهر من كل ما لا يليق.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية، وقوله:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} وقوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} إلى غير ذلك من الآيات.
•
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}
.
أقسم جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يعلم أن الكفار يقولون: إن هذا القرآن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ليس وحيًا من الله، وإنما تعلمه من بشر من الناس.
وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع؛ كقوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)} أي: يرويه محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره، وقوله:{وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} الآية. كما تقدم (في الأنعام).
وقد اختلف العلماء في تعيين هذا البشر الذي زعموا أنه يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح القرآن بأنه أعجمي اللسان؛ فقيل: هو غلام
الفاكه بن المغيرة، واسمه جبر، وكان نصرانيًا فأسلم. وقيل: اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب الأعجمية. وقيل: غلام لبني عامر بن لؤي. قيل: هما غلامان: اسم أحدهما يسار، واسم الآخر جبر، وكانا صيقليين يعملان السيوف، وكانا يقرآن كتابًا لهم. وقيل: كانا يقرآن التوراة والإنجيل، إلى غير ذلك من الأقوال.
وقد بين جل وعلا كذبهم وتعنتهم في قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} بقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} أي: كيف يكون تعلمه من ذلك البشر، مع أن ذلك البشر أعجمي اللسان، وهذا القرآن عربي مبين فصيح، لا شائبة فيه من العجمة؛ فهذا غير معقول.
وبين شدة تعنتهم أيضًا بأنه لو جعل القرآن أعجميًا لكذبوه أيضًا، وقالوا: كيف يكون هذا القرآن أعجميًا مع أن الرسول الذي أنزل عليه عربي؛ وذلك في قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أي: أقرآن أعجمي، ورسول عربي. فكيف ينكرون أن القرآن أعجمي والرسول عربي، ولا ينكرون أن المعلم المزعوم أعجمي، مع أن القرآن المزعوم تعليمه له عربي.
كما بين تعنتهم أيضًا بأنه لو نزل هذا القرآن العربي المبين، على أعجمي فقرأه عليهم عربيًا لكذبوه أيضًا، مع ذلك الخارق للعادة؛ لشدة عنادهم وتعنتهم، وذلك في قوله:{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)} .
وقوله في هذه الآية الكريمة: {يُلْحِدُونَ} أي: يميلون عن
الحق. والمعنى لسان البشر الذي يلحدون، أي: يميلون قولهم عن الصدق والاستقامة إليه = أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي مبين، أي: ذو بيان وفصاحة. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي: {يُلْحِدُونَ} بفتح الياء والحاء، من الحد الثلاثي، وقرأ الباقون:{يُلْحِدُونَ} بضم الياء وكسر الحاء من الحد الرباعي، وهما لغتان، والمعني واحد؛ أي: يميلون عن الحق إلى الباطل. وأما: {يُلْحِدُونَ} التي في (الأعراف، والتي في فصلت) فلم يقرأهما بفتح الياء والحاء إلا حمزة وحده دون الكسائي، وإنما وافقه الكسائي في هذه التي في (النحل) وأطلق اللسان على القرآن لأن العرب تطلق اللسان وتريد به الكلام؛ فتؤنثها وتذكرها، ومنه قول أعشي باهلة:
إن أتتني لسان لا أسر بها
…
من علو لا عجب فيها ولا سخر
وقول الآخر:
لسان الشر تهديها إلينا
…
وخنت وما حسبتك أن تخونا
وقول الآخر:
أتتني لسان بني عامر
…
أحاديثها بعد قول نكر
ومنه قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} أي: ثناء حسنًا باقيًا. ومن إطلاق اللسان بمعنى الكلام مذكرًا قول الحطيئة:
ندمت على لسان فات مني
…
فليت بأنه في جوف عكم
• قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)}.
قال بعض أهل العلم: إن هذا مثل ضربه الله لأهل مكة، وهو رواية العوفي عن ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وحكاه مالك عن الزهري رحمه الله، نقله عنهم ابن كثير وغيره.
وهذه الصفات المذكورة التي اتصفت بها هذه القرية: تتفق مع صفات أهل مكة المذكورة في القرآن؛ فقوله عن هذه القرية: {كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} قال نظيره عن أهل مكة، كقوله:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} الآية، وقوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} الآية، وقوله:{وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} الآية. وقوله: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} قال نظيره عن أهل مكة أيضًا، كقوله:{إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا} وقوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} فإن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن، ورحلة الصيف كانت إلى الشام، وكانت تأتيهم من كلتا الرحلتين أموال وأرزاق، ولذا أتبع الرحلتين بامتنانه عليهم: بأن أطعمهم من جوع. وقوله في دعوة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الآية، وقوله:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الآية.
وقوله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} ذكر نظيره عن أهل مكة في آيات كثيرة، كقوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)} .
وقد قدمنا طرفًا من ذلك في الكلام على قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} الآية.
وقوله: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وقع نظيره قطعًا لأهل مكة، لما لجوا في الكفر والعناد، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف" فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء، حتى أكلوا الجيف والعلهز "وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه" وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن، وذلك الخوف من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزواته وبعوثه وسراياه. وهذا الجوع والخوف أشار لهما القرآن على بعض التفسيرات، فقد فسر ابن مسعود آية "الدخان" بما يدل على ذلك.
قال البخاري في صحيحه: باب {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)} فارتقب: فانتظر.
حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله قال: مضي خمس: الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللزام. {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)} .
حدثنا يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: قال عبد الله: إنما كان هذا لأن قريشًا لما
استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف؛ فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيري ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)} فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضر، فإنها قد هلكت! قال:"لمضر! إنك لجريء! " فاستسقي فسقوا، فنزلت:{إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} يعني يوم بدر.
باب قوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)} حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: دخلت على عبد الله فقال: إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم، إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} إن قريشًا لما غلبوا النبي صلى الله عليه وسلم واستعصوا عليه قال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)} فقيل له: إن كشفنا عنهم عادوا، فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) -إلى قوله جل ذكره- إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} انتهى بلفظه من صحيح البخاري.
وفي تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لهذه الآية الكريمة - ما
يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في "سورة النحل" من لباس الجوع أذيقه أهل مكة، حتى أكلوا العظام، وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع. وهذا التفسير من ابن مسعود رضي الله عنه له حكم الرفع، لما تقرر في علم الحديث: من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع، كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله:
تفسير صاحب له تعلق
…
بالسبب الرفع له محقق
وكما هو معروف عند أهل العلم. وقد قدمنا ذلك في "سورة البقرة" في الكلام على قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} .
وقد ثبت في صحيح مسلم، أن الدخان من أشراط الساعة. ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين: الدخان الذي مضي، والدخان المستقبل جمعًا بين الأدلة. وقد قدمنا أن التفسيرات المتعددة في الآية إن كان يمكن حمل الآية على جميعها فهو أولى. وقد قدمنا أن ذلك هو الذي حققه أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن بأدلته.
وأما الخوف المذكور في آية النحل: فقد ذكر جل وعلا مثله عن أهل مكة أيضًا على بعض تفسيرات الآية الكريمة التي هي: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} فقد جاء عن جماعة من السلف تفسير القارعة التي تصيبهم بسرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب الدر المنثور: أخرج الفريابي وابن جرير، وابن
مردويه عن طريق عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} قال: السرايا.
وأخرج الطيالسي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، من طريق سعيد بن جبير رضي الله عنه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} قال: سرية {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} قال: أنت يا محمد {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} قال: فتح مكة.
وأخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد رضي الله عنه في قوله:{تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} قال: سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم {أَوْ تَحُلُّ} يا محمد {قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} .
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، عن مجاهد رضي الله عنه قال:"القارعة" السرايا {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} قال: الحديبية {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} قال: فتح مكة.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا
…
} الآية - نزلت بالمدينة في سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، أو تحل أنت يا محمد قريبًا من دارهم اهـ محل الغرض منه.
فهذا التفسير المذكور في آية (الرعد) هذه، والتفسير المذكور قبله في آية (الدخان) يدل على أن أهل مكة أبدلوا بعد سعة الرزق بالجوع، وبعد الأمن والطمأنينة بالخوف، كما قال في القرية
المذكورة: {كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} وقوله في القرية المذكورة: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} الآية - لا يخفي أنه قال مثل ذلك عن قريش في آيات كثيرة؛ كقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية، وقوله:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية.
والآيات المصرحة بكفرهم وعنادهم كثيرة جدًا، كقوله:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} الآية، وقوله:{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.
فمجموع ما ذكرنا يؤيد قول من قال: إن المراد بهذه القرية المضروبة مثلًا في آية (النحل) هذه: هي مكة. وروي عن حفصة وغيرها: أنها المدينة، قالت ذلك لما بلغها قتل عثمان رضي الله عنه.
وقال بعض العلماء: هي قرية غير معينة، ضربها الله مثلًا للتخويف من مقابلة نعمة الأمن والاطمئنان والرزق، بالكفر والطغيان. وقال من قال بهذا القول: إنه يدل عليه تنكير القرية في الآية الكريمة في قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً} الآية.
قال مقيده -عفا الله عنه-: وعلى كل حال، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان؛ لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكورة، ولكن الأمثال
لا يعقلها عن الله إلا من أعطاه الله علمًا، لقوله:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} .
وفي قوله في هذه الآية الكريمة: {قَرْيَةً} وجهان من الإعراب.
أحدهما: أنه بدل من قوله: {مَثَلًا} .
الثاني: أن {وَضَرَبَ} مضمن معنى جعل، وأن {قَريَةً} هي المفعول الأول ، و {مَثَلًا} المفعول الثاني، وإنما أخرت قرية لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها المذكورة في قوله:{كَانَتْ آمِنَةً ..} الخ.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {مُّطمَئِنَّةً} أي: لا يزعجها خوف؛ لأن الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلق مع الخوف.
وقوله: {رَغَدًا} أي: واسعًا لذيذًا. والأنعم قيل: جمع نعمة كشدة وأشد، أو على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس كما تقدم في (سورة الأنعام) في الكلام على قوله:{حَتَّى يَبْلُغُ أَشُدَّهُ} الآية.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، هو أن يقال: كيف أوقع الإذاقة على اللباس في قوله: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ .. } الآية. وروي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب: هل اللباس؟! يريد الطعن في قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ .. } الآية. فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس! هب أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ما كان نبيًا! أما كان عربيًا؟.
قال مقيده -عفا الله عنه-: والجواب عن هذا السؤال ظاهر، وهو أنه أطلق اسم اللباس على ما أصابهم من الجوع والخوف؛ لأن آثار الجوع والخوف تظهر على أبدانهم، وتحيط بها كاللباس. ومن حيث وجدانهم ذلك اللباس المعبر به عن آثار الجوع والخوف أوقع عليه الإذاقة، فلا حاجة إلى ما يذكره البيانيون من الاستعارات في هذه الآية الكريمة. وقد أوضحنا في رسالتنا التي سميناها (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز): أنه لا يجوز لأحد أن يقول: إن في القرآن مجازًا، وأوضحنا ذلك بأدلته وبينا أن ما يسميه البيانيون مجازًا أنه أسلوب من أساليب اللغة العربية.
وقد اختلف أهل البيان في هذه الآية، فبعضهم يقول: فيها استعارة مجردة؛ يعنون أنها جيء فيها بما يلائم المستعار له. وذلك في زعمهم أنه استعار اللباس لما غشيهم من بعض الحوادث كالجوع والخوف، بجامع اشتماله عليهم كاشتمال اللباس على اللابس على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية التحقيقية، ثم ذكر الوصف الذي هو الإذاقة ملائمًا للمستعار له الذي هو الجوع والخوف؛ لأن إطلاق الذوق على وجدان الجوع والخوف جري عندهم مجري الحقيقة لكثرة الاستعمال؛ فيقولون: ذاق البؤس والضر، وأذاقه غيره إياهما، فكانت الاستعارة مجردة لذكر ما يلائم المستعار له، الذي هو المشبه في الأصل في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة. ولو أريد ترشيح هذه الاستعارة في زعمهم لقيل: فكساها؛ لأن الإتيان بما يلائم المستعار منه الذي هو المشبه به في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة يسمى "ترشيحًا" والكسوة تلائم
اللباس، فذكرها ترشيح للاستعارة. قالوا: وإن كانت الاستعارة المرشحة أبلغ من المجردة، فتجريد الاستعارة في الآية أبلغ؛ من حيث إنه روعي المستعار له الذي هو الخوف والجوع، بذكر الإذاقة المناسبة لذلك ليزداد الكلام وضوحًا.
وقال بعضهم: هي استعارة مبنية على استعارة؛ فإنه أولًا استعار لما يظهر على أبدانهم من الاصفرار والذبول والنحول اسم اللباس، بجامع الإحاطة بالشيء والاشتمال عليه، فصار اسم اللباس مستعارًا لآثار الجوع والخوف على أبدانهم، ثم استعار اسم الإذاقة لما يجدونه من ألم ذلك الجوع والخوف المعبر عنه باللباس، بجامع التعرف والاختيار في كل من الذوق بالفم، ووجود الألم من الجوع والخوف؛ وعليه ففي اللباس استعارة أصلية كما ذكرنا، وفي الإذاقة المستعارة لمس ألم الجوع والخوف استعارة تبعية.
وقد ألممنا هنا بطرف قليل من كلام البيانيين هنا ليفهم الناظر مرادهم، مع أن التحقيق الذي لا شك فيه: أن كل ذلك لا فائدة فيه، ولا طائل تحته، وأن العرب تطلق الإذاقة على الذوق، وعلى غيره من وجود الألم واللذة، وأنها تطلق اللباس على المعروف، وتطلقه على غيره مما فيه معنى اللباس من الاشتمال؛ كقوله:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} .
وقول الأعشى:
إذا ما الضجيع ثني عطفها
…
تثنت علية فكانت لباسا