الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دار المتقين التي هي الجنة في هذه الآية الكريمة؛ لأن "نعم" فعل جامد لإنشاء المدح. وكرر الثناء عليها في آيات كثيرة؛ لأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر علي قلب بشر، كما قال تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية، وقال:{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.
•
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين يدخلون يوم القيامة جنات عدن. والعدن في لغة العرب: الإقامة، فمعني جنات عدن: جنات إقامة في النعيم، لا يرحلون عنها، ولا يتحولون. وبين في آيات كثيرة: أنهم مقيمون في الجنة علي الدوام، كما أشار له هنا بلفظة {عَدْنٍ} كقوله:{لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} وقوله: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} الآية. والمقامة: الإقامة. وقد تقرر في التصريف: أن الفعل إذا زاد علي ثلاثة أحرف فالمصدر الميمي منه، واسم الزمان، واسم المكان كلها بصيغة اسم المفعول. وقوله:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)} علي قراءة نافع وابن عامر بضم الميم من الإقامة. وقوله: إلى {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بين أنواع تلك الأنهار في قوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ -إلى قوله -مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} وقوله هنا: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ} وضحه في مواضع أخر، كقوله:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} وقوله: {وَفِيهَا مَا
تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)} وقوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)} وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)} ، وقوله:{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} يدل علي أن تقوي الله هو السبب الذي به تنال الجنة.
وقد أوضح تعالي هذا المعني في مواضع أخر، كقوله:{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)} إلى غير ذلك من الآيات.
• قولة تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم، ويجتنبون نواهيه تتوفاهم الملائكة، أي: يقبضون أرواحهم في حال كونهم طيبين، أي: طاهرين من الشرك والمعاصي -على أصح التفسيرات- ويبشرونهم بالجنة، ويسلمون عليهم.
وبين هذا المعني أيضًا في غير هذا الموضع، كقوله:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} وقوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} وقوله: {وَالْمَلَائِكَةِ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}. والبشارة عند الموت، وعند دخول الجنة من باب واحد؛ لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة. ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ويقولون لهم: سلام عليكم أدخلوا الجنة -أن الذين لم يتصفوا بالتقوي لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة، ولم تسلم عليهم، ولم تبشرهم.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر، كقوله:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} الآية، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ -إلى قوله- وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} ، وقوله:{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ .. } الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وقوله: {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} قرأهما عامة القراء غير حمزة: {تَتَوَفَّاهُمُ} بتاءين فوقيتين. وقرأ حمزة "يتوفاهم" بالياء في الموضعين.
تنبيه
أسند هنا جل وعلا التوفي للملائكة في قوله: {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} وأسنده في "السجدة" لملك الموت في قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} وأسنده في "الزمر" إلى نفسه جل وعلا في قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية. وقد بينا في كتابنا [دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب] في سورة "السجدة": أنه لا معارضة بين الآيات المذكورة، فإسناده التوفي لنفسه؛ لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته تعالى، كما قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ