الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما قدمنا ذلك في سورة البقرة.
الجهة الرابعة: أن قوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)} فيه أعظم زجر عن ارتكاب ما لا يرضى الله تعالى.
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جدًا، كقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} وقوله: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)} وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا هذا المبحث موضحًا في أول سورة هود. ولفظة {وَكَمْ} في هذه الآية الكريمة في محل نصب مفعول به لـ {أَهْلَكْنَا} و {مِنْ} في قوله:{مِنَ الْقُرُونِ} بيان لقوله: {وَكَمْ} وتمييز له كما يميز العدد بالجنس. وأما لفظه {مِنْ} في قوله: {مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} فالظاهر أنها لابتداء الغاية، وهو الذي اختاره أبو حيان في "البحر". وزعم الحوفي أن {مِنْ} الثانية بدل من الأولى، ورده عليه أبو حيان. والعلم عند الله تعالى.
•
قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)}
.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} أي: عمل لها عملها الذي تنال به، وهو امتثال أمر الله، واجتناب نهيه بإخلاص على الوجه المشروع {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي: موحد لله جل وعلا، غير مشرك به ولا كافر به، فإن الله يشكر سعيه، بأن يثيبه الثواب الجزيل عن عمله القليل.
وفي الآية الدليل على أن الأعمال الصالحة لا تقع إلا مع الإيمان بالله؛ لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة؛ لأنه شرط في ذلك قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} .
وقد أوضح تعالى هذا في آيات كثيرة: كقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} وقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} وقوله: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)} إلى غير ذلك من الآيات.
ومفهوم هذه الآيات: أن غير المؤمنين إذا أطاع الله بإخلاص لا ينفعه ذلك، لفقد شرط القبول الذي هو الإيمان بالله جل وعلا.
وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات أخر، كقوله في أعمال غير المؤمنين:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ .. } الآية، وقوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا .. } الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بين جل وعلا في مواضع آخر: أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله يجازى به في الدنيا، ولا حظ له منه في الآخرة؛ كقوِله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)} وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ما جاءت به هذه الآيات؛ من انتفاع الكافر بعمله في الدنيا من حديث أنس.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب -واللفظ لزهير- قالا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أمضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها".
حدثنا عاصم بن النضر التيمي، حدثنا معتمر قال: سمعت أبي، حدثنا قتادة عن أنس بن مالك: أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن للكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته".
حدثنا محمد بن عبد الله الرازي، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديثهما.
واعلم أن هذا الذي ذكرنا أدلته من الكتاب والسنة من أن الكافر ينتفع بعمله الصالح في الدنيا: كبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف والجار، والتنفيس عن المكروب ونحو ذلك، كله