الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب (الاعتقاد) وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو واضح جدًا فيما ذكرنا.
الأمر الثاني: أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان، فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان، وتتفق بذلك جميع الأدلة، والعلم عند الله تعالى.
ولا يخفى أن مثل قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى: إن الآخرة دار جزاء لا دار عمل = لا يصح أن ترد به النصوص الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما أوضحناه في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب".
•
في معنى قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير:
الأول: وهو الصواب الذي يشهد له القرآن، وعليه جمهور العلماء: أن الأمر في قوله: {أَمَرْنَا} هو الأمر الذي هو ضد النهي، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره. والمعنى:{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله واتباعهم فيما جاءوا به {فَفَسَقُوا}
أي: خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} أي: وجب عليها الوعيد {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} أي: أهلكناها إهلاكًا مستأصلًا. وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم.
وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة، كقوله:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ .. } الآية. فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أن قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا} أي: أمرناهم بالطاعة فعصوا، وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء.
ومن الآيات الدالة على هذا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} فقوله في هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ .. } الآية، لفظ عام في جميع المترفين من جميع القرى أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم: إنا بما أرسلتم به كافرون، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وبهذا التحقيق تعلم: أن ما زعمه الزمخشري في كشافه من أن معنى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي: أمرناهم بالفسق ففسقوا، وأن هذا مجاز تنزيلًا لإسباغ النعم عليهم الموجب لبطرهم وكفرهم منزلة الأمر بذلك = كلام كله ظاهر السقوط والبطلان؛ وقد أوضح إبطاله أبو حيان في "البحر"، والرازي في تفسيره، مع أنه لا يشك منصف عارف في بطلانه.
وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المألوف، من قولهم: أمرته فعصاني، أي: أمرته بالطاعة فعصى. وليس المعنى: أمرته بالعصيان كما لا يخفى.
القول الثاني في الآية: هو أن الأمر في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أمر كوني قدري، أي: قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له؛ لأن كلًا ميسر لما خلق له، والأمر الكوني القدري كقوله:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} وقوله: {عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وقوله: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} .
القول الثالث في الآية: أن {أَمْرُنَا} بمعنى أكثرنا، أي: أكثرنا مترفيها ففسقوا.
وقال أبو عبيدة {أَمْرُنَا} بمعنى أكثرنا لغة فصيحة كآمرنا بالمد. ويدل لذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير مال امرئ مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة".
قال ابن كثير: قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه (الغريب): المأمورة: كثيرة النسل، والسكة: الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة: من التأبير، وهو تعليق طلع الذكر على النخلة لئلا يسقط ثمرها. ومعلوم أن إتيان المأمورة على وزن المفعول يدل على أن أمر بفتح الميم مجردًا عن الزوائد متعد بنفسه إلى المفعول، فيتضح كون أمره بمعنى أكثر. وأنكر غير واحد تعدي أمر الثلاثي بمعنى الإكثار إلى المفعول وقالوا: حديث سويد
ابن هبيرة المذكور من قبيل الازدواج، كقولهم: الغدايا والعشايا، وكحديث "ارجعن مأزورات غير مأجورات" لأن الغدايا لا يجوز، وإنما ساغ للازدواج مع العشايا، وكذلك مأزورات بالهمز فهو على غير الأصل؛ لأن المادة من الوزر بالواو. إلا أن الهمز في قوله:"مأزورات" للازدواج مع "مأجورات". والازدواج يجوز فيه ما لا يجوز في غيره كما هو معلوم. وعليه فقوله: "مأمورة" إتباع لقوله: "مأبورة" وإن كان مذكورًا قبله للمناسبة بين اللفظين.
وقال الشيخ أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى: {أَمْرُنَا} قرأ أبو عثمان النهدي، وأبو رجاء، وأبو العالية، والربيع، ومجاهد، والحسن {أَمْرُنَا} بالتشديد. وهي قراءة على رضي الله عنه، أي: سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم.
وقال أبو عثمان النهدي: {أَمْرُنَا} بتشديد الميم: جعلناهم أمراء مسلطين.
وقاله ابن عزيز: وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرأ الحسن أيضًا، وقتادة، وأبو حيوة الشامي، ويعقوب، وخارجة عن نافع، وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلي وابن عباس باختلاف عنهما "آمرنا" بالمد والتخفيف، أي: أكثرنا جبابرتها وأمراءها، قاله الكسائي.
وقال أبو عبيدة: "آمرته -بالمد- وأمرته لغتان بمعنى أكثرته؛ ومنه الحديث "خير المال مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة" أي: كثيرة النتاج والنسل. وكذلك قال ابن عزيز: آمرنا وأمرنا بمعنى واحد،
أي: أكثرنا. وعن الحسن أيضًا، ويحيى بن يعمر: أمرنا -بالقصر وكسر الميم- على فعلنا، ورويت عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد. وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد، وأصلها أأمرنا فخفف. حكاه المهدوي.
وفي الصحاح: قال أبو الحسن: أمر ماله -بالكسر- أي: كثر. وأمر القوم، أي: كثروا، قال الشاعر وهو الأعشى:
طرفون ولادون كل مبارك
…
أمرون لا يرثون سهم القعدد
وآمر الله ماله -بالمد-. الثعلبي: ويقال للشيء الكثير: أمر، والفعل منه أمر القوم يأمرون أمرًا: إذا كثروا.
قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحى إذا كثروا: أمر أمر بني فلان؛ قال لبيد:
كلُّ بني حُرَّة مصيرُهُمُ
…
قُلٌّ وإن أكثرَتْ من العدد
إن يُغْبَطوا يُهْبَطوا وإن أَمِروا
…
يومًا يصيروا للهُلْك والنكدِ
قلت: وفي حديث هرقل الحديث الصحيح: لقد أَمر أمرُ ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر؛ أي: كثر، وكلها غير متعد، ولذلك أنكره الكسائي. والله أعلم.
قال المهدوي: ومن قرأ أمر فهي لغة. ووجه تعدية أمر أنه شبهه بعمر من حديث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة؛ فعدى كما عدى عمر - إلى أن قال: وقيل: أمرناهم جعلناهم أمراء؛ لأن
العرب تقول: أمير غير مأمور، أي: غير مؤمر. وقيل معناه: بعثنا مستكبريها. قال هارون: وهي قراءة أبي: بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا فيها. ذكره الماوردي.
وحكى النحاس: وقال هارون في قراءة أبي: وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول اهـ. محل الغرض من كلام القرطبي.
وقد علمت أن التحقيق الذي دل عليه القرآن أن معنى الآية: أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمرنا؛ فوجب عليهم الوعيد فأهلكناهم كما تقدم إيضاحه.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: إن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع المترفين وغيرهم في قوله: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} يعني القرية، ولم يستثن منها غير المترفين؟
والجواب من وجهين:
الأول: أن غير المترفين تبع لهم، وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم؛ لأن غيرهم تبع لهم، كما قال تعالى:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)} وكقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} الآية، وقوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ