الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بتزيينه، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة، فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها، غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان. وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن.
الثاني: أن الله لم يجعل له عليهم سلطانًا ابتداء البتة، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعاته ودخولهم في حزبه، فلم يتسلط عليهم بقوة؛ لأن الله يقول:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} وإنما يتسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم.
ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم رحمه الله. وقد بينا هذا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب).
•
.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه إذا بدل آية مكان آية، بأن نسخ آية أو أنساها، وأتي بخير منها أو مثلها: أن الكفار يجعلون ذلك سببًا للطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم، بادعاء أنه كاذب على الله، مفتر عليه زعمًا منهم أن نسخ الآية بالآية يلزمه البداء، وهو الرأي المجدد، وأن ذلك مستحيل على الله، فيفهم عندهم من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مفتر على الله زاعمين أنه لو كان من الله لأقره وأثبته، ولم يطرأ له فيه رأي متجدد حتى ينسخه.
والدليل على أن قوله: {بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} معناه: نسخنا آية وأنسيناها، قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} وقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} أي: أن تنساه.
والدليل على أنه إن نسخ آية أو أنساها، لابد أن يأتي ببدل خير منها أو مثلها: قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وقوله هنا: {بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} .
وما زعمه المشركون واليهود: من أن النسخ مستحيل على الله لأنه يلزمه البداء -وهو الرأي المتجدد- ظاهر السقوط، واضح البطلان لكل عاقل؛ لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة، بل الله جل وعلا يشرع الحكم، وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت المعين، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة، فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز جل وعلا ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم، الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة، كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه، وحدوث الغني بعد الفقر وعكسه، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء؛ لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له، على وفق ما سبق في العلم الأزلي كما هو واضح.
وقد أشار جل وعلا إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ، وتمحضها في الناسخ بقوله هنا:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} وقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} وقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)} فقوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)} بعد قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} يدل على أنه أعلم بما ينزل، فهو عالم بمصلحة الإنسان، ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: لا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ عقلًا وشرعًا، ولا في وقوعه فعلًا، ومن ذكر عنه خلاف في ذلك كأبي مسلم الأصفهاني: فإنه إنما يعني أن النسخ تخصيص لزمن الحكم بالخطاب الجديد؛ لأن ظاهر الخطاب الأول استمرار الحكم في جميع الزمن. والخطاب الثاني دل على تخصيص الحكم الأول بالزمن الذي قبل النسخ، فليس النسخ عنده رفعا للحكم الأول.
وقد أشار إليه في مراقي السعود بقوله في تعريف النسخ:
رفع لحكم أو بيان الزمن
…
بمحكم القرآن أو بالسنن
وإنما خالف فيه اليهود وبعض المشركين، زاعمين أنه يلزمه البداء كما بينا، ومن هنا قالت اليهود: إن شريعة موسى يستحيل نسخها.
المسألة الثانية: لا يصح نسخ حكم شرعي إلا بوحي من كتاب أو سنة؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} وبه تعلم أن النسخ بمجرد العقل ممنوع، وكذلك لا نسخ بالإجماع؛ لأن الإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما دام حيًا فالعبرة بقوله وفعله وتقريره صلى الله عليه وسلم، ولا حجة معه في قول الأمة؛ لأن اتباعه فرض على كل أحد، ولذا لابد في تعريف الإجماع من التقييد بكونه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، كما قال صاحب المراقي في تعريف الإجماع:
وهو الاتفاق من مجتهدي
…
الأمة من بعد وفاة أحمد
وبعد وفاته ينقطع النسخ؛ لأنه تشريع، ولا تشريع البتة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وإلي كون العقل والإجماع لا يصح النسخ بمجردهما - أشار في مراقي السعود أيضًا بقوله في النسخ:
فلم يكن بالعقل أو مجرد
…
الإجماع بل ينمي إلى المستند
وقوله: "بل ينمي إلى المستند" يعني أنه إذا وجد في كلام العلماء أن نصًا منسوخ بالإجماع، فإنهم إنما يعنون أنه منسوخ بالنص الذي هو مستند الإجماع، لا بنفس الإجماع، لما ذكرنا من منع النسخ به شرعًا. وكذلك لا يجوز نسخ الوحي بالقياس على التحقيق، وإليه أشار في المراقي بقوله:
ومنع نسخ النص بالقياس
…
هو الذي ارتضاه جل الناس
أي: وهو الحق.
المسألة الثالثة: اعلم أن ما يقوله بعض أهل الأصول من المالكية والشافعية وغيرهم: من جواز النسخ بلا بدل، وعزاه غير واحد للجمهور، وعليه درج في المراقي بقوله:
وينسخ الخف بماله ثقل
…
وقد يجيء عاريًا من البدل
أنه باطل بلا شك. والعجب ممن قال به من العلماء الأجلاء مع كثرتهم، مع أنه خالف مخالفة صريحة لقوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فلا كلام البتة لأحد بعد كلام الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
حَدِيثًا (87)} {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} فقد ربط جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين النسخ، وبين الإتيان ببدل المنسوخ على سبيل الشرط والجزاء، ومعلوم أن الصدق والكذب في الشرطية يتواردان على الربط، فيلزم أنه كلما وقع النسخ وقع الإتيان بخير من المنسوخ أو مثله كما هو ظاهر.
وما زعمه بعض أهل العلم من أن النسخ وقع في القرآن بلا بدل، وذلك في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فإنه نسخ بقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ. .} الآية، ولا بدل لهذا المنسوخ.
فالجواب: أن له بدلًا، وهو أن وجوب تقديم الصدقة أمام المناجاة لما نسخ بقي استحباب الصدقة وندبها، بدلًا من الوجوب المنسوخ كما هو ظاهر.
المسألة الرابعة: اعلم أنه يجوز نسخ الأخف بالأثقل، والأثقل بالأخف. فمثال نسخ الأخف بالأثقل: نسخ التخيير بين الصوم والإطعام المنصوص عليه في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} بأثقل منه، وهو تعيين إيجاب الصوم في قوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ونسخ حبس الزواني في البيوت المنصوص عليه بقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} الآية، بأثقل منه وهو الجلد والرجم المنصوص على الأولى منهما في قوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وعلى الثاني منهما بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها ثابتًا، وهي قوله: {والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة
نكالًا من الله والله عزيز حكيم} ومثال نسخ الأثقل بالأخف: نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار المنصوص عليه في قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية، بأخف منه وهو مصابرة المسلم اثنين منهم المنصوص عليه في قوله:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية. وكنسخ قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية، بقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} فإنه نسخ للأثقل بالأخف كما هو ظاهر، وكنسخ اعتداد المتوفى عنها بحول، المنصوص عليه في قوله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} الآية، بأخف منه، وهو الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، المنصوص عليه في قوله:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .
تنبيه
اعلم: أن في قوله جل وعلا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} إشكالًا من جهتين:
الأولى: أن يقال: إما أن يكون الأثقل خيرًا من الأخف؛ لأنه أكثر أجرًا، أو الأخف خير من الأثقل لأنه أسهل منه، وأقرب إلى القدرة على الامتثال، وكون الأثقل خيرًا يقتضي منع نسخه بالأخف، كما أن كون الأخف خيرًا يقتضي منع نسخه بالأثقل؛ لأن الله صرح بأنه يأتي بما هو خير من المنسوخ أو مماثل له، لا ما هو دونه، وقد عرفت: أن الواقع جواز نسخ كل منهما بالآخر.
الجهة الثانية من جهتي الإشكال في قوله: {أَوْ مِثْلِهَا} لأنه يقال: ما الحكمة في نسخ المثل ليبدل منه مثله؟ وأي مزية للمثل على المثل حتى ينسخ ويبدل منه؟.
والجواب عن الإشكال الأول: هو أن الخيرية تارة تكون في الأثقل؛ لكثرة الأجر، وذلك فيما إذا كان الأجر كثيرًا جدًا، والامتثال غير شديد الصعوبة؛ كنسخ التخيير بين الإطعام والصوم بإيجاب الصوم، فإن في الصوم أجرًا كثيرًا كما في الحديث القدسي "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" والصائمون من خيار الصابرين؛ لأنهم صبروا لله عن شهوة بطونهم وفروجهم، والله يقول:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} ومشقة الصوم عادية ليس فيها صعوبة شديدة تكون مظنة لعدم القدرة على الامتثال، وإن عرض ما يقتضي ذلك كمرض أو سفر؛ فالتسهيل برخصة الإفطار منصوص بقوله:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وتارة تكون الخيرية في الأخف، وذلك فيما إذا كان الأثقل المنسوخ شديد الصعوبة بحيث يعسر فيه الامتثال، فإن الأخف يكون خيرًا منه؛ لأن مظنة عدم الامتثال تعرض المكلف للوقوع فيما لا يرضي الله، وذلك كقوله:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فلو لم تنسخ المحاسبة بخطوات القلوب لكان الامتثال صعبًا جدًا، شاقًا على النفوس، لا يكاد يسلم من الإخلال به، إلا من سلمة الله تعالى، فلا شك أن نسخ ذلك بقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} خير للمكلف من بقاء ذلك الحكم الشاق، وهكذا.
والجواب عن الإشكال الثاني: هو أن قوله: {أَوْ مِثْلِهَا}
يراد به مماثلة الناسخ والمنسوخ في حد ذاتيهما، فلا ينافي أن يكون الناسخ يستلزم فوائد خارجة عن ذاته يكون بها خيرًا من المنسوخ، فيكون باعتبار ذاته مماثلًا للمنسوخ، وباعتبار ما يستلزمه من الفوائد التي لا توجد في المنسوخ خيرًا من المنسوخ.
وإيضاحه: أن عامة المفسرين يمثلون لقوله: {أَوْ مِثْلِهَا} بنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام؛ فإن هذا الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى ذاتيهما متماثلان؛ لأن كل واحد منهما جهة من الجهات، وهي في حقيقة أنفسها متساوية، فلا ينافي أن يكون الناسخ مشتملًا على حكم خارجة عن ذاته تصيره خيرًا من المنسوخ بذلك الاعتبار، فإن استقبال بيت الله الحرام تلزمه نتائج متعددة مشار لها في القرآن ليست موجودة في استقبال بيت المقدس. منها: أنه يسقط به احتجاج كفار مكة على النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: تزعم أنك على ملة إبراهيم ولا تستقبل قبلته! وتسقط به حجة اليهود بقولهم: تعيب ديننا وتستقبل قبلتنا، وقبلتنا من ديننا! وتسقط به أيضًا حجة علماء اليهود فإنهم عندهم في التوراة: أنه صلى الله عليه وسلم سوف يؤمر باستقبال بيت المقدس، ثم يؤمر بالتحول عنه إلى استقبال بيت الله الحرام، فلو لم يؤمر بذلك لاحتجوا عليه بما عندهم في التوراة من أنه سيحول إلى بيت الله الحرام، والفرض أنه لم يحول.
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكم التي هي إدحاض هذه الحجج الباطلة بقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ثم بين الحكمة بقوله: {لِئَلَّا
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} الآية. وإسقاط هذه الحجج من الدواعي التي دعته صلى الله عليه وسلم إلى حب التحويل إلى بيت الله الحرام المشار إليه في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية.
المسألة الخامسة: اعلم أن النسخ على ثلاثة أقسام:
الأول: نسخ التلاوة والحكم معًا، ومثاله ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:"كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن" الحديث. فآية عشر رضعات منسوخة التلاوة والحكم إجماعًا.
الثاني: نسخ التلاوة وبقاء الحكم، ومثاله آية الرجم المذكورة آنفًا، وآية خمس رضعات على قول الشافعي وعائشة ومن وافقهما.
الثالث: نسخ الحكم وبقاء التلاوة، وهو غالب ما في القرآن من المنسوخ، كآية المصابرة، والعدة، والتخيير بين الصوم والإطعام، وحبس الزواني. كما ذكرنا ذلك كله آنفًا.
المسألة السادسة: اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السنة بمتواتر السنة. واختلفوا في نسخ القرآن بالسنة كعكسه، وفي نسخ المتواتر بأخبار الآحاد. وخلافهم في هذه المسائل معروف. وممن قال: بأن الكتاب لا ينسخ إلا بالكتاب، وإن السنة لا تنسخ إلا بالسنة الشافعي رحمه الله.
قال مقيده -عفا الله عنه-: الذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- هو أن الكتاب والسنة كلاهما ينسخ بالآخر؛ لأن الجميع
وحي من الله تعالى. فمثال نسخ السنة بالكتاب: نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام، فإن استقبال بيت المقدس أولًا إنما وقع بالسنة لا بالقرآن، وقد نسخه الله بالقرآن في قوله:{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} الآية. ومثال نسخ الكتاب بالسنة: نسخ آية عشر رضعات تلاوة وحكمًا بالسنة المتواترة؛ ونسخ سورة الخلع وسورة الحفد تلاوة وحكمًا بالسنة المتواترة. وسورة الخلع وسورة الحفد: هما للقنوت في الصبح عند المالكية.
وقد أوضح صاحب (الدر المنثور) وغيره تحقيق أنهما كانتا سورتين من كتاب الله ثم نسختا، وقد قدمنا (في سورة الأنعام) أن الذي يظهر لنا أنه الصواب: هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه، وأنه لا معارضة بينهما؛ لأن المتواتر حق، والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئًا جديدًا لم يكن موجودًا قبل، فلا معارضة بينهما ألبتة لاختلاف زمنهما.
فقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ} الآية، يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية؛ لصراحة الحصر بالنفي والإثبات في الآية في ذلك. فإذا صرح النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح "بأن لحوم الحمر الأهلية غير مباحة" فلا معارضة البتة بين ذلك الحديث الصحيح وبين تلك الآية النازلة قبله بسنين؛ لأن الحديث دل على تحريم جديد، والآية ما نفت تجدد شيء في المستقبل كما هو واضح.
فالتحقيق إن شاء الله: هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد
الصحيحة الثابت تأخرها عنه، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين، ودرج على خلافه وفاقًا للجمهور صاحب المراقي بقوله:
والنسخ بالآحاد للكتاب
…
ليس بواقع على الصواب
ومن هنا تعلم: أنه لا دليل على بطلان قول من قال: إن الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بحديث "لا وصية لوارث". والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة: اعلم أن التحقيق هو جواز النسخ قبل التمكن من الفعل.
فإن قيل: ما الفائدة في تشريع الحكم أولًا إذا كان سينسخ قبل التمكن من فعله؟.
فالجواب: أن الحكمة ابتلاء المكلفين بالعزم على الامتثال. ويوضح هذا أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ولده، وقد نسخ عنه هذا الحكم بفدائه بذبح عظيم قبل أن يتمكن من الفعل، وبين أن الحكمة في ذلك: الابتلاء بقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} ومن أمثلة النسخ قبل التمكن من الفعل: نسخ خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء، بعد أن فرضت الصلاة خمسين صلاة، كما هو معروف. وقد أشار إلى هذه المسألة في مراقي السعود بقوله:
والنسخ من قبل وقوع الفعل
…
جاء وقوعًا في صحيح النقل
المسألة الثامنة: اعلم أن التحقيق: أنه ما كل زيادة على النص تكون نسخًا، وإن خالف في ذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله، بل