الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعبودات التي جعلوا لها من رزق الله نصيبًا جماد لا تعقل شيئًا. وعبر بالواو في {لَا يَعْلَمُونَ} على هذا القول لتنزيل الكفار لها منزلة العقلاء في زعمهم أنها تشفع، وتضر وتنفع.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن هذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة بينه تعالى في غِير هذا الموضع، كقوله:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)} وذلك أن الكفار كانوا إذا حرثوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منها جزءًا، وللوثن جزءًا فما جعلوا من نصيب الأوثان حفظوه، وإن اختلط به شيء مما جعلوه لله ردوه إلى نصيب الأصنام، وإن وقع شيء مما جعلوه لله في نصيب الأصنام تركوه فيه، وقالوا: الله غني والصنم فقير. وقد أقسم جل وعلا: على أنه يسألهم يوم القيامة عن هذا الافتراء والكذب، وهو زعمهم أن نصيبًا مما خلق الله للأوثان التي لا تنفع ولا تضر في قوله:{تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} وهو سؤال توبيخ وتقريع.
•
قوله: {وَيَجْعَلُونَ} أي: يعتقدون. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يعتقدون أن لله بنات إناثًا. وذلك أن خزاعة وكنانة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، كما بينه تعالى بقوله:
{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} الآية. فزعموا لله الأولاد، ومع ذلك زعموا له أخس الولدين وهو الأنثى، فالإناث التي جعلوها لله يكرهونها لأنفسهم ويأنفون منها، كما قال تعالى عنهم:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} أي: لأن شدة الحزن والكآبة تسود لون الوجه {وَهُوَ كَظِيمٌ (58)} : أي: ممتلئ حزنًا، وهو ساكت، وقيل: ممتلئ غيظًا على امرأته التي ولدت له الأنثى. {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} أي: يختفي من أصحابه من أجل سوء ما بشر به لئلا يروا ما هو فيه من الحزن والكآبة، أو لئلا يشمتوا به ويعيروه، ويحدث نفسه وينظر:{أَيُمْسِكُهُ} أي: ما بشر به وهو الأنثى {عَلَى هُونٍ} أي: هوان وذل {أَمْ يَدُسُّهُ} في التراب، أي: يدفن المذكور الذي هو الأنثى حيًا في التراب، يعني ما كانوا يفعلون بالبنات من الوأد، وهو دفن البنت حية، كما قال تعالى:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} .
وأوضح جل وعلا هذه المعاني المذكورة في هذه الآيات في مواضع أخر، فبين أن جعلهم الإناث لله، أو الذكور لأنفسهم قسمة غير عادلة، وأنها من أعظم الباطل.
وبين أنه لو كان متخذًا ولدًا سبحانه وتعالى عن ذلك، لاصطفى أحسن النصيبين، ووبخهم على أن جعلوا له أخس الولدين، وبين كذبهم في ذلك وشدة عظم ما نسبوه إليه، كل هذا ذكره في مواضع متعددة، كقوله:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} وقوله: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)} وقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ
بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)} وقوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)} وقوله: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَي مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)} وقوله: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)} وقال جل وعلا: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} وقال: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)} وقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)} .
وبين شدة عظم هذا الافتراء بقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} وقوله: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)} إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)} مبتدأ وخبر.
وذكر الزمخشري والفراء وغيرهما: أنه يجوز أن تكون {مَّا} في محل نصب عطفًا على {الْبَنَاتُ} أي: ويجعلون لله البنات، ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون. ورد إعرابه بالنصب الزجاج، وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم. قاله القرطبي.
وقال أبو حيان "في البحر المحيط": قال الزمخشري: ويجوز في {مَّا} فيما يشتهون الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفًا على {البَنَاتِ} أي: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. انتهى. وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي.
وقال أبو البقاء -وقد حكاه-: وفيه نظر. وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو: وهي أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدى إلى ضميره المتصل المنصوب؛ فلا يجوز: زيد ضربه، أي: زيدًا. تريد ضرب نفسه؛ إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية، أو فقد وعدم؛ فيجوز: زيد ظنه قائمًا، وزيد فقده، وزيد عدمه. والضمير المجرور بالحرف كالمنصوب المتصل، فلا يجوز: زيد غضب عليه، تريد غضب على نفسه. فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب، إذ يكون التقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. فالواو ضمير مرفوع "ولهم" مجرور باللام. فهو نظير: زيد غضب عليه اهـ.
والبشارة تطلق في العربية على الخبر بما يسر، وبما يسوء. ومن إطلاقها على الخبر بما يسوء قوله هنا:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} الآية، ونظيره قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)} ونحو ذلك من الآيات.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم؛ ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المري ابنته الجرباء قال:
وإني وإن سيق إلى المهر
…
ألف وعبدان وذود عشر
• أحب أصهاري إلى القبر*
ويروي لعبد الله بن طاهر قوله:
لكل أبي بنت يراعي شئونها
…
ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
فبعل يراعيها وخدر يكنها
…
وقبر يواريها وخيرهم القبر
وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن، وشدة كراهيتهم لولادتهن الخوف من العار، وتزوج غير الأكفاء، وأن تهان بناتهم بعد موتهم، كما قال الشاعر في ابنة له تسمي مودة:
مودة تهوي عمر شيخ يسره
…
لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوة الناس بعده
…
ولا ختن يرجي أود من القبر
وقال الآخر:
تهوي حياتي وأهوي موتها شفقًا
…
والموت أكرم نزال على الحرم
وقد ولدت امرأة أعرابي أنثي، فهجرها لشدة غيظه من ولادتها أنثى فقالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
…
يظل بالبيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا
…
ليس لنا من أمرنا ماشينا
• وإنما نأخذ ما أعطينا*
تنبيه
لفظة "جعل" تأتي في اللغة العربية لأربعة معان:
الأول: بمعني اعتقد؛ كقوله تعالى هنا: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} قال في الخلاصة:
• وجعل اللذ كاعتقد*