الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
18 - بابٌ مَنْ قَالَ: إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، عَنْ قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61]
.
(باب من قال: أن الإيمان هو العمل)
هو بإضافة (باب) إلى ما بعدَه، والمراد بالعمَل الأعمُّ من عمَل القَلْب واللِّسان والجوارح، وحينئذٍ فيُطابقه ما أورده من الآيات والحديث، فيرجع كلٌّ إلى ما يدلُّ عليه.
(أورثتموها) ليس المراد الإرْث المعروف، وهو انتِقال المِلْك بالموت، بل إما أنَّ الكافر يُورث المؤمن ذلك الذي لولا كُفره لم يصِلْ للمُؤمن، ولكنْ بكفره ماتتْ رُوحه، وإما أنَّ الله تعالى هو المورِّث له، أي: أَعطاه مَجانًا، فأَشبَه أخْذ الوارِث من مورِّثه، أو أنَّه مجازٌ عن الإبْقاء على طريقة إطلاق الكُلِّ وإرادة الجُزْء.
(بما كنتم تعملون)؛ أي: بعمَلكم، أو بالذي كنتم تعملونَه، أي: إما مصدريةٌ أو موصولةٌ.
قال المفسِّرون: معنى (تعمَلون): تُؤمنون؛ فلذلك استدلَّ به البخاري.
ولا تنافيَ بين الآية وبين حديث: "لَنْ يَدخلَ أَحدُكم الجنَّةَ بعمَلهِ"، إما لأَنَّ الباء في الآية للمُلابَسة، أو لملابسةِ الثواب لأَعمالكم، أو للمُقابلة نحو: أَعطيتُ الشَّاةَ بدِرهمٍ، وإما لأنَّ دُخول الجنَّة برحمة الله لا بالعمَل، أو الدُّخول لجنَّةٍ عاليةٍ خاصةٍ بالعمَل، وقال (ن): ما معناه: الدُّخول بالعمل لا لذاته بل لأنَّه من تيسير الله ورحمته، وهو حسَنٌ خلافًا لما قالَه (ك).
(عدة) بكسر العين، وتشديد الدَّال، أي: عددٌ قلَّ أو كثُر، وقد سَمَّى منهم: أنسَ، وابن عُمر، ومُجاهد، وغيرهم.
(عن قول لا إله إلا الله) تفسيرٌ لقوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]، فيتعلَّق عن بـ (تسأل)، ولا تنافيَ بين هذه الآية وبين قوله تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]؛ لأنَّه إما باعتبار مَحلَّين؛ لأنَّ للقيامة مَواقف وأَزمنةٌ، أو أنَّ المعنى: لا يُسألون سُؤالَ استخبارٍ بل سُؤال توبيخٍ، أو لا يُسأل عن ذنْبه غيرُه من الإنْس والجانّ، كما قال تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
وقال (ن): الظاهر أنَّ المراد: لنَسألنَّهم عن أَعمالهم كلِّها، أي: الأعمال التي يتعلَّق بها التكليف لا عن: لا إله إلا الله فقط، ولا دليلَ على الاختِصاص.
(لمثل هذا)؛ أي: الفَوز العظيم.
(فليعمل العاملون)؛ أي: فليُؤمن الكافرُون، فأَطلق العمَل على الإيمان.
* * *
26 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونسُ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: "إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ"، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْجهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "حَجٌّ مَبْرُورٌ".
(م س).
(أحمد بن يونسُ) هو أَحمد بن عبد الله بن يُونُس، سماه الإِمام أحمد: شَيْخ الإسلام، كما سيأْتي.
(سئل) السائل: أبو ذَرٍّ كما في (كتاب العِتْق).
(أفضل)؛ أي: أكثَر ثَوابا عند الله.
(إيمان) خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هو إيمانٌ، أو مبتدأٌ خبره محذوفٌ، أي: أفْضل؛ لتخصيص المبتدأ بمتعلَّقه.
(الجهاد)؛ أي: القِتال لإعلاء كلمة الله، وإنما كان أفْضل لأنَّه بذْل النَّفس كما قال:
والجُودُ بالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الجُودِ
ويجرى في إعراب (الجِهاد) الوجْهان في (إِيمان)، وكذا يجريان في:(حج مبرور)؛ أي: الذي لا يخالطه إثْمٌ، وقيل: المَقبول، وعلامة القَبول: أنْ تكون حالة الرجوع خيرًا مما قبلَه، وقيل: ما لا رياءَ فيه، وقيل: ما لا يَعقُبه معصيةٌ.
وأصل البِرِّ الطَّاعة والقَبول، يُقال: بَرَّ حَجُّك، بفتح الباء وضمها لازِمَين.
قلتُ: دعوى (ك) لُزوم بُر -بضم الباء- فيها نظَرٌ؛ لأنَّ ضمَّ الباء إنْ قُدِّر لكونه مبنيًّا للمفعول، أي: بَرَّه الله؛ فهو مُتَعَدٍّ قَطْعًا، وإنْ قُدِّر ضمُّه على حَدِّ: لُبَّ الرجلُ، أي: صارَ لَبيبًا، فمِثْله نادرٌ يحتاج إلى نقْلٍ، ففي "الصَّحاح": أنَّ أصل: لُبٌّ الكسر، تقول: لببتَ يا رجلُ، تَلَبُّ، -أي: بالفتح- لُبابُه، أي: صِرْتَ ذا لُبٍّ، وحكى يونسُ: لُبِبت -بالضم-، وهو نادرٌ لا نظيرَ له في المضاعَف، انتهى.
نعَمْ، فيه نظَرٌ؛ فإنَّ: حَبَّذا زيدٌ، أصلُه: حُبِّبْتُ -بالضم- كما قرَّره هو في موضعه، وغيرُه، وبَرَّ الله حَجَّك، أي: قَبِلَه، فيَكون مُتَعَدِّيًا.
قال الجَوْهَري: وأَبرَّ اللهُ حَجَّكَ لُغةٌ فيه، أي: تعديتُه بهمزةٍ، وتعريف الجِهاد باللَّام دُون الإيمان والحجِّ؛ لأنَّ المعرَّف بلام الجِنْس كالنَّكِرة في المعنى، فلذلك تُعرَب الجُملة في نحو:
ولَقَدْ أَمُرُّ علَى اللَّئيمِ يَسُبُّنِي
صِفةً لا حالًا.
قلتُ: وجوَّز كثيرٌ حاليَّتها باعتِبار صُورة التَّعريف باللَّام في (اللَّئيم) على أنَّ الحارِث بن أَبي أُسامة رواه في "مسنده": (جِهادًا) بالتَّنكير، وأما في المعنى فلأنَّ الإِيمان والحجَّ لا يتكرَّر وُجوبهما،
فنُوِّنا للإفراد، والجِهاد قد يتكرَّر، فعُرِّف، والتَّعريف للكَمال، وأما ذِكْر الجِهاد في هذا الحديث بعد الإِيمان، وفي حديث ابن مَسعُود: 7"والصَّلاةُ لمِيْقاتِها"، وفي حديث أبي ذَرٍّ لم يُذكر الحجُّ، وفي حديث: أَيُّ الإِسلام أَفضَل؟ قال: "مَنْ سَلِمَ المُسلِمُون مِن لِسانِه وَيَدِهِ"، وفي آخَر:"أَنْ تُطعِمَ الطَّعامَ"، فقال (ن): قال العُلَماء: اختَلفت الأَجوبةُ لاختِلاف الأَحوال، فأجاب كلًّا بما تَدعُو حاجتُه إليه، أو بما لم يَعلمْه السَّائل، وأَهل المَجلِس، وتَرْك ما عَلمُوه، ولهذا سقَط ذِكْر الصَّلاة والصِّيام في حديث الباب مع تقدُّم الثَّلاث على الحجِّ والجِهاد.
وقال القَفَّال: إنَّ الخَيريَّة تكون من بعض الوُجوه لا مُطلَقًا بل في شخْصٍ دون شخصٍ، وحالٍ دُون حالٍ.
قلتُ: وهو يَرجع إلى مَا قبْله.
وقيل: بل المُراد من خيرٍ، فحُذفت (مِن) كما يُقال: فلانٌ أعقَل النَّاس، أي: مِن أَعقَلهم، ومنه حديث:"خَيرُكم خيرُكم لأَهلهِ"، وليس المراد أنَّه خيرٌ مطلقًا.
وأما تقديم الجِهاد على الحجِّ مع أنَّ الحجَّ من أَركان الإسلام، والجهاد فرضُ كفايةٍ، فلأنَّ الجهاد قد يَتعيَّن كسائر فُروض الكفاية، ولو لم يتعيَّن فلا يقَع إلا فَرْضًا، والحجُّ قد يقَع نفْلًا، فإذا قُوبل واجبُ الحجِّ بمتعيِّن الجِهاد كان الجهاد أَفضل؛ لهذا الحديث، ولأنَّ نفْع الجهاد مُتَعَدٍّ، وإنْ تَساويا في الفرَضيَّة؛ لأنَّه ذَبَّ عن بَيضة الإسلام، أو لأنَّ الجهاد كان الأَهمَّ في ابتداء الإسلام، أو أنَّ (ثُمَّ) هنا للترتيب