الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
29 - بابٌ الدِّينُ يُسْرٌ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ
".
(باب الدين يسر)، مبتدأٌ وخبرٌ، و (يُسْر) بضم السين وإسكانها: ضِدُّ العُسر، أي: ذُو يُسرٍ، أو وصفٌ بالمصدر مبالغةً، صار لشدَّته كأنَّه هو، ومحلُّ الجُملة جرٌّ بإضافة:(باب)، أي: بابُ قَولِ ذلك.
(وقول النبي صلى الله عليه وسلم بالجرِّ عطْف على المضاف إليه.
والحديث المذكور قال (ش): أسنَده أبو بكر بن أبي شَيبة، وقال غيره: إنَّ البُخاري وصلَه في كتاب "الأَدَب المفرَد"، وأحمد في "مُسنده" من حديث عِكْرمة، عن ابن عبَّاس، وله شاهد مرسلٌ في "طبقات ابن سَعْد"، وفي الباب عن أُبَيٍّ، وجابِر، وابن عُمر، وأبي أُمامة، وأَبي هُريرة، وغيرهم.
(أحب) مبتدأٌ، (الحنيفية) خبره على تقدير موصوفٍ، أي: الملَّة الحَنيفية، أي: المائلة عن الباطل إلى الحقِّ.
(السمحة)؛ أي: السَّهلة؛ إذ المُسامحة المُساهَلة، فالمراد أنَّه لا حَرَج فيها، ولا تَضييق، وذلك ملَّة الإسلام، ويحتمل أن تكون اللام للعَهْد إشارةً إلى مِلَّة إبراهيم كما في الآية؛ إذ الحَنيف عند العرَب من كان على مِلَّة إبراهيم عليه السلام؛ لأنَّه مالَ عن عِبادة الأَوثان، ويُسمَّى مَن اختَتن، وحجَّ البَيت كذلك، ومِلَّة إبراهيم -عليه
السلام- سمحةٌ؛ لمُخالفتها ما كان في بني إسرائيل، وتكلُّف أَحبارهم ورهبانهم من الشَّدائد.
و (أحبُّ) بمعنى محبوب، لا بمعنى مُحِبٍّ، وإنما أَخبر عنه -وهو مذكَّرٌ- بمؤنَّثٍ وهو الحنيفية؛ لغلَبة الاسميَّة عليها؛ لأنَّها علَمٌ على الدِّين، أو لأنَّ أَفْعل التفضيل المضاف يجوز إفراده ومُطابقته، فلا منْعَ من أنَّ الملَّة والدِّين واحدٌ وإن كان بعضُهم غايَرَ بينهما.
فإن قيل: أَفْعل التفضيل تقتضي المُشاركة، فيَلزم أنْ يكون كلُّ دِينٍ محبوبًا لله تعالى، وليس الدّين الباطِل من ذلك قطعًا؟
قيل: هو موقوفٌ على تفسير المَحبَّة، وسبَق، وسيأتي أنَّ المراد بالدِّين الطاعة، أي: أحبُّ الطاعات السَّمحة.
ووجْهُ إِيرادِ هذا الحديث هنا: أنَّ في السَّماحة تيسيرَ الأمر على العِباد، وقصْد الترجمة أنَّ الذي يتصِف باليُسر والعُسر الأعمال دون التَّصديق، ولذلك قال في الحديث الآتي:"وشَيءٍ مِنَ الدُّلْجةِ"؛ لأنَّ سَيرَ الليلِ كلَّه يشُقُّ على الإنسان.
* * *
39 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدّينَ أَحَد إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ".
(س).
(يشاد)؛ أي: يُغالب من الشِّدَّة.
(الدين) رواه الجُمهور هكذا من غير لفْظ: (أَحَدٌ)، وأثبتَها ابن السَّكَن، فعلى هذا (الدِّين) نصبٌ بالمفعولية، وعلى الأوَّل فضبَطه كثيرٌ بالنَّصب أيضًا على إِضْمار الفاعِل في (يُشادَّ) للعِلْم به، أي: مثْل: {حَتَّى تَوَارَت بِاَلحجَابِ} [ص: 32]، أي: الشَّمس، وصاحِب "المَطالِع"، وهو الأكثَر بالرفْع علي بناء يُشادُّ للمفعول.
قال (ن): الأكثَر في بلادنا بالنَّصب، والمعنى: إنَّ الدِّين يَغلب مَن غالبَه، انتهى. أي: لا يتَعمَّق أحدٌ في الدِّين، ويَترك الرِّفق إلا غلَب الدِّين عليه، وعجَز عن ذلك التَّعمُّق، وانقطَع عن عمَله كلِّه أو بعضِه.
ومُراد البخاري بذلك أنَّ الدِّين يقَع على الأعمال؛ إذ هي التي تُوصف باليُسر والعُسر، فالدِّين والإيمان والإسلام بمعنَى واحدٍ.
(فسددوا) -بالمهملة-: مِن السَّداد، وهو الصَّواب، أي: وُفِّقوا له.
(وقاربوا) يحتمِل في العِبادة، فإنَّكم إذا باعدتُم فيها لم تَبلغوا، ويحتمل أنْ يكون معنى (قاربوا): سَاعِدوا، وقاربتُ فلانًا: ساعدتُه، أي: ليُساعدْ بعضُكم بعضًا في الأُمور، لكن الأول أَليَق بالترجمة.
(وابشروا) بقطع الهمزة، ويجوز لغةً:(ابشُروا) بضم الشِّين من
البُشرى بمعنى: الابتشار، أي: أبشِروا بالثَّواب على العمَل وإِنْ قلَّ.
(بالغدوة والروحة) بفتح أوَّلهما.
قال الجَوْهَري: الغَدْوة: ما بين صلاة الغَداة وطُلوع الشمس، والرَّواح: من الزَّوال إلى الليل.
(الدلجة) هي لغةً بفتح الدال وضمها: اسمٌ من الإدْلاج -بسُكون الدال-، لكنَّ الرِّواية بالضم، وهو سَير آخِر الليل، أما بالفتح: فسَير أوَّله، وهو كقوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]، كأنَّه عليه الصلاة والسلام خاطَبَ مُسافرًا يقطَع طريقَه إلى مَقصده، فنبَّهه على أَوقات نشاطه التي تَركَ فيها عملَه؛ لأنَّ هذه الأَوقات أفْضل أوقات المُسافر؛ لأنَّ الدُّنيا حقيقة دار نُقلةٍ، وطريقٌ إلى الآخرة، فنبه الأُمة على اغتِنام أَوقات فرْضهم، أي: فإنَّ الدَّوام لا تُطيقونه، فاستَعينوا على تحصيله بذلك كما في السَّفَر، كما سبق.
والحاصل: الأمر بالاقتِصاد، وترْك المُبالغة المؤدِّية إلى الانقِطاع بل تكونون متوسِّطين في الأَعمال.
واعلم أنَّ مُناسبةَ هذا الحديث للشِّقِّ الثاني من الترجمة -وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ المَحبَّةَ من الله إما أن تكون مجازًا عن الاستِحسان، فالمعنى: أحسَن الأَديان عند الله الذي لا يَغلب الشَّخص ويَقهرُه بل يكون سَهلًا عليه، وإما أن يكون المراد بالمَحبَّة إيصال الثَّواب، فالمراد الذي فيه الثواب، وهو الواجب والمندوب لا غيرهما.
* * *