الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحُوتِ فِي البَحرِ، فَقَالَ فتى مُوسَى لِمُوسَى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوينَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ، وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، قَالَ مُوسَى: ذَلِكَ مَا كنَّا نبغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ".
(تمارى والحر) فيه العطْف على الضَّمير المرفوع المتصِل بلا فَصلٍ، والحُرُّ بضم المهملة وتشديد الراء.
(حصن) بكسر المهملة، وسُكون الصاد المهملة.
(الفزاري) بفتح الفاء، وتخفيف الزَّاي، وبعد الأَلف راءٌ، ووقَع بين ما هنا والحديث السابق تفاوُتٌ يسيرٌ سَهْلٌ.
* * *
20 - بابُ فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلّمَ
(باب فضل من علم وعلم)
79 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلم كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْها نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ وَالعُشْبَ الكَثيرَ، وَكَانَتْ مِنها أَجَادِبُ أَمسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِها النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا
وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنها طَائِفَةً أُخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لم يَرْفَع بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَم يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ".
قَالَ أبَو عَبْدِ اللهِ: قَالَ إِسْحَاقُ: "وَكَانَ مِنْها طَائِفَةٌ قَيَّلَتِ المَاءَ": قَاعٌ يَعلُوهُ المَاءُ، وَالصَّفْصَفُ: المُسْتَوِي مِنَ الأرضِ.
إسناده كوفيون، وفيه لطيفةٌ: وهي رواية بُريد عن جده، وجده عن أبيه.
(مثل) بفتح المُثلَّثة، أي: الصفة التي تكون عجيبةً كما ذُكر مرارًا.
(الهدى) هو الدلالة المُوصِلة للقَصْد.
(والعلم) هو صفةٌ توجِب تمييزًا لا يحتمِل النَّقيضَ، وعطف على (الهدى) إما لأن العِلْم راجعٌ لنفسه، والهدى راجعٌ للغير، وإما أنَّ الهدى الدلالة، والعلم المدلول، والمراد الطريقة والعمَل.
(الغيث) عبَّر به دُون غيره من أسماء المطر لاضطِرار الخلق كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] فالعِلْم يُحيي القُلوب -لا سيَّما وقد كانتْ ماتتْ قبل المَبْعَث- كما أنَّ الغَيث يُحيي الأرضَ.
(نقية) بنونٍ مفتوحةٍ، وقافٍ، أي: طيِّبةٌ كما عبَّر به في رواية
مسلم، ويُروى:(نفْعة)، وحكى السَّفَاقُسي عن (خ):(ثَغْبَة) بفتح المُثلَّثة، وبغين معجمةٍ ساكنة أو مفتوحة، وهو مُستنقَع الماء في الجبال والصُّخور.
قال في "المطالع": وذلك غلَطٌ من الناقل، وتصحيفٌ، وإحالةٌ للمعنى؛ لأن الطائفة الأُولى جُعلت لما يُنبت، والثَّغبة لا تُنبت.
(قبلت) من القَبول، وفي بعض النُّسَخ: بياء مشددةٍ، أي: أمسَكتْ.
قلت: وهو ما نقلَه البخاري آخرًا عن إسحاق في رواية الأَصِيْلِي.
قال (ع): ورواه غيره بالمُوحَّدة في الموضعَين، ثم رواية الأَصِيْلِي قيل: تصحيفٌ من إسحاق، وقيل: صحيحة، ومعناه شَرِبَتْ من القَيْل، وهو شُرب نصف النَّهار، قال في "الجمهرة": قيَّلَ الماءُ في المكان: إذا اجتَمعَ فيه.
(الكلأ) -بالهمز- رطبًا أو يابسًا.
(والعشب) هو الرَّطْب، فهو من عطف الخاص على العام؛ للاهتمام به وشرَفه، ومثله الخَلا -بالقصر-؛ بخلاف الحَشيش فإنَّه اليابس.
(أجادب) بالجيم والدال المهملة.
قال (خ): الأرض التي تُمسِك الماءَ فلا يُسرع إليها النُّضوب،
أي: لا تُنبت لصلابتها، جمع جَدب على غير قياسٍ، وإنما القياس جمع جَدَب، أو أَجْدَب كما جمعوا حسَنًا على مَحاسِن، وهو قياس مُحسِن، وهو من الجَدْب بمعنى: القَحْط، أي: لقِلَّة المطر ونحوه.
قال: وقال بعضهم: (أَحارِب) بمهملة وراء، وبعضهم بهما والدال، وليس بشيءٍ، وبعضهم (أَجارِد) بجيمٍ، وراءٍ، ودالٍ مهملةٍ، وهو صحيح المعنى إنْ ساعدَتْه الروايةُ، والأَجارِد ما لا يُنبت الكلأَ، معناه: أنَّها جُردٌ لا يَستُرها نباتٌ.
وبعضهم: (إخاذَات) بمعجمتين، وألفٍ بينهما جمع: إِخَاذَة بكسر الهمزة، وهي الغَدير الذي يمسِك الماء، وصوَّبه عبد الغافر الفارِسي، ورُوي:(أَجاذِب) بجيمٍ، ومعجمةٍ، وهي صِلاب الأرض التي تمسِك الماءَ.
قال في "المطالع": وكلُّها مرويةٌ منقولةٌ.
(قيعان) وهو المستوي الواسِع في وِطاءٍ من الأرض.
قلت: وقيل الأرض المَلْساء، وقيل: الأرض التي لا نباتَ فيها، وتُجمع أيضًا على قُوع وقِيْعة.
(سقوا) فيه لُغةٌ: أَسقَى، وقيل: سَقاه: ناوَلَه، وأَسقاه: جعل له سُقْيا.
(وزرعوا) في "مسلم": (ورَعَوا) من الرَّعي، قال (ع): وهو الوجه، (وَزَرعُوا) تصحيفٌ، ورُدَّ بأن المراد: زرعوا به تلك الأرض، فلا إشكال.
(فقه) بضم القاف في الأجود؛ لأنَّه يُراد به الفقه الشَّرعي الذي يصير به سجيَّةً، وروي بالكسر.
(لم يرفع بذلك رأسًا)؛ أي: تكبَّر فلم يَلتفت إليه لتكبُّره.
(هدى الله) اكتفَى به عن ذكر العِلْم كما في مُقابله لاستلزامه إياه.
* تنبيه: لا يخفَى ما اشتمل عليه هذا الحديث من بديع التَّقسيم، وحُسن تشبيه كلِّ قسمٍ من الناس في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم بقسمٍ من أقسام المطَر إذا نزل بها الغَيث لا أن المصرَّح به في الأرض ثلاثةٌ، وفي الناس قسمان: مَن تحمَّل العلم وتفقَّه فيه شبيهٌ بالأرض الطيِّبة تُنبت، فانتفعت، وانتفع بنباتها الناس، ومَن حملَه ولم يتفقَّه فيه لعدم الأَذْهان الثاقبة، والرُّسوخ في العلْم المؤدي إلى استنباط الأحكام؛ فهذا قد ينفَعُ الناس، فأشبَه الأرض الصُّلبة لم تُنبت، ولكن تمسِك، فيأخذُه الناس وينتفعون به، وهذا القِسْم من الناس هو المتروك في الحديث، وهو في الأرض، مذكورٌ، ومن لم يحمل ولم يتفقَّه فيه كالقِيْعان التي لا تُنبت ولا تُمسِك الماء بل هي سِباخٌ، فالأول لمن نفَع وانتفَع، والثاني لمن نفَع ولم ينتفِع، والثالث لا نَفَعَ ولا انتفَعَ، أو يُقال: ضرَب المثَل في الأول للعُلماء، والثاني للنَّقَلة، والثالث لمن لا عِلْم له ولا نقْلَ.
قال (ن): ولا يخفَى أن دلالة اللفظ على كون الناس ثلاثة أنواعٍ غير ظاهرةٍ.
قال (ح): هذا مثَلٌ ضُرب لمن قبِلَ الهدى، فحصل في أن
المثل ضربٌ لمن قبِل الهدى، فعلم وعلَّم، ولمن لم يقبل الهدى، فلم ينتفع ولم ينفَع، فقصَره على نوعين.
وقال الطِّيْبِي: إن القسمة الثنائية هي المقصودة، وذلك لأنَّ (أصاب منها طائفةً) عطفٌ على (أصابتْ أرضًا)، وكانت الثانية معطوفة على (كانتْ) لا على (أصاب)، ولكن الأُولى قِسمان: نقيَّة وأجادب، والثانية على عكسها، فضمت الواو في (من كانت) وترًا إلى وترٍ، وفي (أصاب) شفعًا إلى شفعٍ كما في:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية، عطفَ الإناثَ على الذُّكور، ثم عطف الإناثَ على القِسمين.
والحاصل أنَّه ذكر في الناس من الطرَفين العالي في الاهتِداء، والعالي في الضلال، وأسقَطَ الوسَط، وهو قسمان: مَن انتفع بالعِلْم في نفسه فحسبُ، أي: وهذا ليس له مشبةٌ في الأرض، وإنْ كان التقسيم العقلي يقتضيه، وهو موجودٌ في الناس، والثاني عكسه أنَّه لم ينتفع بنفْسه ولكن نفَع الغيرَ.
وقرر المُظْهِري "في شرح المصابيح" الحديثَ على أن الأرض فيها ثلاثة أقسامٍ، والناس قسمان؛ لأن القسم الأول والثاني من الأرض كقسمٍ واحدٍ؛ لاشتراكهما في الانتفاع، ومقابله قسمٌ واحدٌ، وهو عدم الانتفاع.
قلت: وهو آيلٌ إلى بعض التَّقارير السابقة.
وقرَّر (ك): أن الناس في الحديث ثلاثة كالأرض باعتبار أن تكون (مَنْ) الموصولة محذوفة قبل لفظة: (نفعه)، والتقدير: ومن نفعه ما بعثني الله به بقرينة سبقها في (من فقه) على حد قول الشاعر:
فمَنْ يَهجو رسولَ الله منكُمْ
…
ويمدَحُه وينصُره سَواءُ
أي: ومن يمدحه، فيكون النافع في مقابلة الفقيه والنَّقية، أي: مَن حمل الفقه لا من تفقَّه فيه في مُقابلة الأجادِب على طريق اللف والنشر غير المرتَّب، ومَن لم يرفع به رأْسًا في مقابلة القِيْعان.
قال: وإنما حُذفت (مَن) لأنَّه مع ما قبله كالشيء الواحد كما جعل للنَّقية والأَجادب حكمًا واحدًا حيث لم يُعِد لفْظ: (أصابه) في (الأجادب)، وأعادها في:(قِيْعان)، وكذا أَعاد لفْظ (مثَل) فيه، انتهى.
قلت: حَمْلُ (من فقه) على نَقَلَ ولم يتفقَّه فيهِ = في غاية البُعد، وخلاف اللُّغة والعُرف، ثم هذا التشبيه من تشبيه معقولٍ في محسوسٍ، وفي الثاني محسوسٌ بمحسوسٍ، ويحتمل أن يكون تشبيهًا واحدًا من باب التَّمثيل شبَّه صفة الواصِل للناس من حيث اعتبار النَّفع وعدَمه بالمطَر المصيب أنواعَ الأرض.
وقوله: (فذلك مثَلُ من فقُه) هو تشبيهٌ آخر قرَّر به الأول وبيَّن به القصْد.
(قال أبو عبد الله)؛ أي: البخاري: (قال إسحاق) الأشبه أنَّه ابن راهويه، أي: أنَّه روى عن حمَّاد بن أسامة: (طائفة) بدل (نقيَّة)، ولهذا في بعض النُّسَخ: إسحاق عن أبي أُسامة، وهو حماد بن أُسامة، ويحتمل أنَّه أراد به إسحاق بن راهوَيْهِ، ويحتمل إسحاق بن منْصور؛ لأن البخاري روى عن الثلاثة، ولكن يُؤيد أنَّه ابن راهويه أنَّه رواه في "مسنده" عن أبي أُسامة، وكذا في كتاب "الاتصال" للرَّامَهُرمُزي.
قال الغَسَّاني في "تقييد المهمل": إذا قال البخاري: (حدَّثنا إِسحاق) احتمَل أحد الثَّلاثة، وسبَق أنَّ (قال) أَدْوَنُ مِن حدَّث وأخبر؛ لاحتمال أنَّها عند المذاكرة، على أنَّه يحتمِل التَّعليق أيضًا بأنْ يكون بينه وبينه واسطةٌ، ويقع في بعض النُّسَخ:(ابن إِسحاق)، ولكنَّ هذا لا يُعرف من حديثه.
وفي الحديث جواز ضرب الأَمثال، وفضل العِلم والتَّعليم، والحثُّ عليهما، وعدَم الإِعراض عنهما.